بلورة مشروع التغيير

بناء تيار ديمقراطي قوي يستدعي تغيير نظرتنا للسياسة أولا؛ التخلي عن رؤيتها كصراع حول الهوية أو حول تفسير التاريخ، وعن ممارستها من خلال اتخاذ مواقف وصياغة مطالب وتنظيم احتجاجات. والنظر إليها بدلا من ذلك باعتبارها صراع حول إدارة الحياة العامة، نحن فيه طرف فاعل يتحمل مسئولية شق طريق التغيير الذي ننادي به، وبناء تأييد شعبي لهذا الطريق يكون مصدر قوتنا في صراعنا مع الأطراف الأخرى. كي نمارس السياسة بهذا المعنى نحتاج بلورة مشروع لإصلاح إدارة الحياة العامة في مصر من الرعاية الصحية للاقتصاد لإدارة العدالة، وأن نبلوره تحت القمع، وبدون إطار مؤسسي كحزب أو جمعية، وبشكل يمكن لجميع أنصار الديمقراطية المشاركة فيه. بلورة هذا المشروع هو طوق النجاة لنا جميعا مما نحن فيه.

لماذا يشكل بلورة مشروع التغيير أولوية؟

لعدة أسباب:

١. لأنه الوسيلة الوحيدة المتاحة لنا لبناء قاعدة تأييد شعبي. نحن لا نملك مدرعات وعساكر يحملونا لكراسي الحكم، ولا نحمل سلاحا نرهب به أعدائنا، وليس لدينا قوى دولية أو إقليمية تمولنا بالمليارات وتعول علينا لحماية مصالحها، ومن ثم لا أمل لنا في تحقيق مطالبنا سوى من خلال تأييد الناس لنا. إما نحصل على تأييد الناس ونصبح قوة سياسية، أو لا نحصل عليه ونظل لا شيء. والسبب الرئيسي الذي قد يدفع الناس لتأييدنا هو اقتناعهم بقدرتنا على تحقيق مطالبهم وحماية مصالحهم لا الإيمان بهوية أو مثل عليا.

٢.   وكي نقنع الناس بقدرتنا على تحقيق مطالبهم، لا بد من أن نكون قادرين بالفعل على ذلك. والحقيقة أننا غير قادرين. الحقيقة أننا لا نعرف كيف نوفر مليون وظيفة ومسكن سنويا، ولا كيف ننقذ الملايين الذين يعيشون في العشوائيات، ولا كيف نوفر رعاية صحية لهم، ولا كيف نجعل تذكرة المترو في متناول يد معظم الركاب، ولا كيف نحول الشرطة والقضاء لأجهزة تخدمنا لا تستعبدنا. ولو كان البرادعي أو صباحي قد كسبا الانتخابات في ٢٠١٢ أو ٢٠١٤ لما عرفا كيف يحققا ذلك. ولو تاب الجيش وأناب وقرر العودة لدوره الحقيقي وتسليم السلطة لنا لما عرفنا. الانكار لا يفيد. هذا لا يعني أن الجيش يعرف، أو أن سياساته الحالية ناجحة. لكن الجيش عنده مدرعات وجنود وسيطرة على الدولة منذ سبعين عاما، ونحن لا.

٣. ولأنه نشاط يصعب على القمع منعه. القمع يمنع “النشاط السياسي” بصوره التقليدية، كالوقفات والمظاهرات والمؤتمرات والنشاط الحزبي التقليدي. وليس من الحكمة تحدي القمع ووضع رقبتنا تحت سيفه. يجب أن نكون أصيع من الأمن وأذكى، لأننا الطرف غير المسلح. إن أغلقوا الباب وقفنا في الشبابيك، وإن أغلقوا الشبابيك تحدثنا في الظلام، وإن وضعونا في الحبس الانفرادي اخترعنا شفرة للتواصل. القمع لا يمنع الطلبة والباحثين من الدراسة وكتابة الرسائل العلمية، ولا يمنع الناس من تنزيل الكتب وقراءتها، ولا من الاستماع لجيرانهم ومعارفهم والتعلم منهم. بل لا يمنعنا من الالتحاق بالوظائف بمؤسسات الدولة – من الري والمواصلات والمحليات والمستشفيات الى الشرطة والجيش والقضاء. القمع لا يستطيع منعنا من الذهاب للسينما أو لعب الكرة، لا يستطيع منعنا من اللقاء والحديث والعمل سويا ومعرفة بعضنا البعض والتشبيك فيما بيننا. وهذه هي الأشياء التي نحتاجها لبلورة مشروع التغيير.

ما المطلوب عمليا بالضبط؟

بلورة مشروع التغيير عملية سياسية رغم جوانبها الفنية الكثيرة. صحيح أننا نحتاج معرفة تفاصيل إدارة كل قطاع وميزانيته وجذور المشكلات التي يعاني منها، لكننا أيضا نحتاج فهم المصالح التي تستفيد من هذه الأوضاع، وبالتالي معرفة من سيقف ضد التغيير ومن سيسانده وأين نجد التأييد السياسي الذي يمكننا من تحييد العقبات، الخ. ورغم مشاكل المعلومات في مصر، إلا أن المتاح منها يكفي ويزيد لبلورة مثل هذا المشروع.

من الذي سيبلور مشروع التغيير هذا؟

بلورة مشروع التغيير ليست أمرا يقوم به شخص عبقري أو قائد ملهم. فمشروع التغيير – أو رؤية الحكم – ليست روشتة يعطيها لنا حكيم، مهما كانت حكمته، بل تقوم به جماعة متكاملة في عملها، تستمع للناس وتحاول فهم الواقع، ثم تناقش وتفحص وتطور حلولها.

من هم أعضاء هذه الجماعة؟ كل أنصار الديمقراطية الذين لا ينتمون للتيار الإسلامي (وإن كانوا متدينين) ولا من أنصار الاستبداد (وإن كانوا يحبون الدولة القوية) ولا ينتمون للتيارات اليسارية (وإن كانوا من أنصار العدالة الاجتماعية)، سواء شاركوا في الثورة أو شاهدوها في التليفزيون، سواء كانوا خبراء أم بلا خبرة محددة. كل هؤلاء يمكنهم المشاركة – بأمان – في بناء مشروع التغيير، بدون الانضمام لحزب ولا رفع شعار، وذلك من خلال ثلاث أشكال للمشاركة: 

الشكل الأول أن تحاول المساهمة في بلورة إجابات عملية على سؤال التغيير في قطاع ما تعرفه أو تنوي معرفته. على سبيل المثال الرعاية الصحية: كيف نحول المستشفيات الدامية التي لدينا إلى مستشفيات بجد، وكيف نوفر رعاية صحية جيدة لكل مواطن؟ بداية تحتاج معرفة جذور مشاكل الخدمات الصحية: هل هي في المعدات والموارد فقط أم أيضا في الكفاءات البشرية والنظام المالي والإداري؟ لا تفتي، لا ترد قبل أن تستمع للعاملين في المستشفيات، من المرضين للأطباء للمديرين وفي وزارة الصحة. لا تضيع وقتك في وصف مظاهر تدهور الرعاية الصحية بل ركز في فهم أسبابها. هل كتب أحد شيئا عن هذا الموضوع؟ هل هناك ورقة بحثية، دراسة، رسالة ماجستير، تقرير هيئة ما يتناول الموضوع؟ من كتب؟ وأين هو؟ وماذا يفعل الآن؟ وأين هذه الأوراق؟ جمعها وتابع الناس. هل هناك جمعيات أو هيئات تعاملت مع جوانب من هذا الموضوع؟ من هي؟ وأين تعمل؟ وما وضعها الآن؟ إن كان هناك ما يمكنك الانضمام اليه دون وضع رأسك تحت سيف الأمن فانضم، وإن كان هناك خطر خليك بعيد لكن راقب، اسأل، اسمع، اقرأ. ادرس، تعلم، افهم. اجمع كل هذه الخبرات وإن أتيحت لك فرصة آمنة اكتبها وانشرها، ولو على الانترنت، ولو باسم مستعار.

الشكل الثاني للمشاركة يخص من يستطيع صياغة حلول، من حيث الظروف ومن حيث المعرفة. اقترح حلولك – جزئية أو متكاملة لا يهم: كيف نحل مشاكل الرعاية الصحية أو جانب منها؟ من الذي سيعارض هذه الحلول أو سيقف عقبة في طريقها وكيف يمكن التعامل معه: هل هناك وسيلة لكسب تأييدهم أو لتحييدهم؟ من أين يأتي التمويل اللازم لتنفيذ هذه الحلول؟ اكتب حلولك في صورة لا تجر عليك المشاكل: رسالة علمية، ورقة بحثية، مقال، نداء للرئيس القائد، لا يهم. لا تتخانق مع السلطات، لا تركز في المطالب و “حق المواطن في الرعاية الصحية”، لا تطالب الدولة بشيء بل اطرح روشتة لإصلاح قطاع الخدمات الصحية أو جزء منه. اكتب كأنك توصي السيدة وزيرة الصحة التي تعتقد أن السلام الوطني مفيد للصحة – خذهم على قد عقلهم. اكتب ما تراه من حلول وواصل المتابعة والاستماع والفهم. وإن أتيحت لك فرصة المساهمة ساهم، في أي صورة ولو كانت العمل في وزارة الصحة، ولو كانت الانضمام للبرنامج الرئاسي للشباب. تحول الى من تريد رؤيته مسئولا عن هذا القطاع: شخص يعرف جذور المشكلة ويرى حلولا لها، وانتظر.

الشكل الثالث يخص من لديه قدرة تنظيمية ما، سواء مراكز الأبحاث والجمعيات التي لا تزال قائمة، أو الأحزاب ان استطاعت، أو المصريين في الخارج، أو من يستطيع انشاء منتديات على الانترنت – بأسماء وهمية إن لزم. هذا المستوى يتولى تجميع المعارف والحلول الخاصة بمجال ما وتنظيم مناقشاتها بهدف تبادل الخبرات والأفكار. ومع الوقت، من هذه المناقشات العلنية والمنشورة، تبرز مشروعات لسياسات عامة يمكنها إدخال الإصلاحات المطلوبة. سيكون بعضها أكثر جذرية من بعض، وبعضها أكثر واقعية من بعض. لا يهم، فليس المطلوب التوصل لـ”حل واحد يتفق عليه الجميع”، وإنما لمجموعة من الحلول العملية التي قد تصلح بعضها أو كلها بأشكال متفاوتة. ويمكن لهذا الشكل من المشاركة التربيط بين كثير من جوانب عملية بلورة رؤية التغيير وتشبيكها.

هل نحن ننشئ تيار سياسي أم مركزا للأبحاث؟

ننشئ عقلا لتيار سياسي، نبلور رؤية لتغيير مصر وإصلاح أحوالها جذريا. لو كنا قد بدأنا هذا الجهد في ٢٠٠٥ لكان موقفنا في فبراير ٢٠١١ أفضل كثيرا. ولو أنفقنا السنوات الخمس القادمة في “مذاكرة مصر” بهذا الشكل لأصبح موقفنا ساعتها أفضل كثيرا. تركيز نشاطنا على بلورة مشروع التغيير هذا سيحقق سبع فوائد:

١. سنعقل ونبطل كلام فارغ: سنعرف جميعا – قادة وكوادر وأنصار – أبعاد المشاكل على حقيقتها ونميز بين ما هو واقعي وما هو خيال شعبي.

٢. سنتعلم كيف نستمع للناس بدلا من الخطابة فيهم، ونفهم لغتهم وبالتالي نستطيع التواصل معهم بشكل أفضل حين يأتي الوقت لهذا.

٣. ستصبح خناقاتنا أكثر ارتباطا بالمشاكل التي نحاول حلها وأقل تركيزا على الأشخاص ومشاعرنا الشخصية إزائهم. بل ستصبح صراعاتنا مع خصومنا أقل شخصنة وأقل ارتباطا بأشياء وهمية. توجيه الصراع للقضايا الملموسة وكيفية إدارتها سيقلل حدة الخلاف حول هوية مصر الإسلامية أو المؤامرة الماسونية.

٤. سنبني شبكات معارف تربط الناس ببعضها في كل القطاعات توفر الأساس اللازم لقيام جماعة سياسية منظمة، دون متاهات انشاء الكيانات وكتابة اللوائح ودخول السجن.

٥. سنخلق نخبة جديدة لديها خبرات مفيدة غير الشعارات والجعجعة؛ ففي نهاية هذه العملية سيكون لدينا في كل قطاع عدة أشخاص يصلحون لإدارته، وعدد أكبر من المتخصصين في هذا القطاع يمكنهم المعاونة في إدارته، وعدد أكبر مهتمين بهذا القطاع ويفهمون واقعه.

٦. سندرب عقلنا وعيوننا على فكر التمكين ونظرته – قيادة التغيير والفعل – بدلا من عقلية الشكوى والمطالبة واليأس.

٧. سيكون لدينا رؤية لتغيير مصر نحشد التأييد حولها ونضغط على السلطة بها وبالنخبة والشبكات الناشئة عن بلورتها. رؤية تساعدنا في فتح المجال العام على خلفية أمور تكلفة القمع فيها أعلى ومبرره أقل. ومع كل انفتاح في المجال العام – انتخابات في نقابة أو برلمان أو مركز محلي – ندفع بقدمنا في الفتحة مستخدمين رؤانا لإصلاح الحال المائل ومركزين الصراع حولها، وهو صراع غير مسلح لنا فيه ميزة ليست لغيرنا. وهكذا، موقع بموقع، نطور رؤانا أكثر، ونكتسب تأييد ومصداقية أكبر، ونبني مزيد من القوة، حتى نفتح المجال العام ونقوم في تنظيم سياسي واضح يخوض انتخابات عامة ويكسبها، ويغير شكل ومضمون الحكم في مصر إلى الأبد.