الديمقراطية ليست بالإقناع ولا بالثورة

السؤال الصعب هو كيف يمكن دفع الإسلاميين والعسكريين للقبول بالنظام الديمقراطي قبولا فعليا وليس مؤقتا؟

تحذير: هذا المقال يحتوي على تنظير، فمن كان له كارها فليمتنع. ومن كان عاجزا عن إخراج رأسه من المستنقع والنظر للأفق فليمتنع. ومن كان جريحا غاضبا يتوق للطبطبة فليمتنع.

نحن (أنصار الديمقراطية) نريد دولة ذات دستور يضمن الحقوق الفردية والجماعية ويصون الكرامة وينظم المنافسة السياسية ويرسم حدودها، ونريد حكومات تحترم هذا الدستور وتطبقه، وتمثل للمسائلة والمحاسبة أمام نواب للشعب منتخبين بحرية، وقوى سياسية تلتزم بقواعد اللعبة الديمقراطية ولا تسعى لإقصاء بعضها البعض، وأجهزة دولة مدنية وعسكرية تلتزم بمهامها دون تغول ودون محاباة لقوى سياسية على حساب أخرى. هذا هدفنا، لأننا نعتقد أن الديمقراطية – على علاتها – هي أفضل نظم الحكم التي توصلت لها المجتمعات البشرية.

يمكنني الإشارة لعشرات الكتب التي تشرح تفوق الديمقراطية على ما عداها كنظام حكم. يمكنني مناظرة أي شخص عاقل وإثبات أفضلية الديمقراطية على الاستبداد سواء كان باسم الوطنية أو باسم الدين أو باسم الطبقة العاملة. لكن الديمقراطية لا تأتي بالإقناع.

مصر لن تتحول لديمقراطية لمجرد أننا نطالب بها أو لأنها أفضل النظم. الطريقة الوحيدة – وأكرر: الوحيدة – لتحقيقها هو الضغط المنظم والمستمر على القوى السياسية الأخرى – العسكريين والإسلاميين – لدفعهم للقبول بقواعد الديمقراطية. ويعني هذا أن يكون لدينا من القوة ما يجعل ضغطنا موجعا وفعالا، وأن يكون لدينا من البصيرة ما يمكنا من توجيه هذا الضغط إلى أكثر المواضع فائدة. 

لكن القوة وحدها لا تكفي. فالديمقراطية لا تتحقق بمجرد الضغط، حتى لو بلغ الضغط درجة الثورة. وذلك لأن الديمقراطية تتطلب القبول، لا فقط الإذعان. أي قبول الأطراف السياسية المؤثرة كلها بقواعد الديمقراطية والتزامهم بها هم أنفسهم. أما أن ظل الإسلاميون ينظرون للديمقراطية باعتبارها حكم الأغلبية وأن من يأتي به الصندوق يحق له فعل ما شاء، أو أنها سلم يصعدون عليه الى السلطة كي يطبقون “شرع الله”، لما تحولنا لديمقراطية أبدا. قمع الإسلاميين لن يقيم ديمقراطية أيضا، لأنها ليست نادي للأقلية ولا يمكن أن تقوم في ظل قمع قسم هام من المجتمع أو قوة سياسية هامة – مهما كان تقييمنا لها.

نفس الشيء ينطبق على العسكريين. إن ظلوا ينظرون للديمقراطية باعتبارها نظام سياسي غريب علينا وأن الجيش الذي هزم الهكسوس وحمى البلاد من الحيثيين لا يليق به الانصياع لأوامر حفنة من المدنيين وأن الشعب قافلة من القصر الذين يحتاجون لحراسته الميمونة، فلا ديمقراطية أيضا، مهما قمنا بثورات عليهم.

Image result for ‫الاخوان المسلمين وقيادات الجيش في مصر‬‎

قيام ثورة جديدة لن يحول العسكريين أو الإسلاميين إلى ديمقراطيين ليبراليين. فأنصار الديمقراطية – حتى في سياق ثورة – لا يستطيعون فرض رؤيتهم على الطرفين الأخريين إلا لفترة قصيرة، بعدها سيستعيدون توازنهم ويجدوا الوسيلة للدفاع عن رؤاهم الاستبدادية. وماحدث في مصر منذ ٢٠١١ يجب أن يكون قد حسم هذا الجدل. لا الإخوان ولا العسكريون “خان” الثورة: كلاهما استغل السياق الثوري لتحقق رؤيته التي يؤمن بها، تماما مثلما حاولنا نحن (أنصار الديمقراطية) استغلال السياق الثوري لتحقيق رؤيتنا. الفارق بيننا وبينهم (غير أننا نظن أننا على حق وهم على باطل، وهو نفس ما يظنه كل منهما) أننا فشلنا قبلهما، ثم لحق بنا الإسلاميون (نحن الثور الأبيض لا الإسلاميين).

السؤال الصعب هو كيف يمكن دفع الإسلاميين والعسكريين للقبول بالنظام الديمقراطي قبولا فعليا وليس مؤقتا؟

الشيء الوحيد الذي يمكنه دفع الإسلاميين والعسكريين للقبول بديمقراطية حقيقية هو أن يكون لأنصار الديمقراطية الليبرالية من القوة والبصيرة ما يكفي لتمكينهم من “إعادة تأهيل” خصومهم. القوة المنظمة ضرورية لإجبار الإسلاميين والعسكريين على احترام النظام الديمقراطي، والبصيرة ضرورية كي نفهم ضرورة إفساح مكان في هذا النظام الديمقراطي للإسلاميين والعسكريين بحيث يستطيعوا حماية مصالحهم الأساسية داخله (حتى لو على حساب الطابع الديمقراطي للنظام). هذا الكلام بعيد عن الواقع الحالي، حيث يقمع العسكريون الجميع. لكن لو فكرنا عدة خطوات للأمام، وتصورنا أننا اكتسبنا مرة أخرى القوة الكافية لفرض رؤيتنا الديمقراطية، فماذا نفعل بها؟ هل نحاول القضاء على خصومنا مثلما يحاولون القضاء علينا؟ إجابتي هي لا، بالعكس تماما. من مصلحتنا، أن أردنا إرساء قواعد الديمقراطية، أن نوسع لخصومنا قليلا بحيث نجعل بقائهم داخل النظام الديمقراطي خيارا أعقل من محاولة كسره ثانية. وهذا معناه تقديم التنازلات لهؤلاء الخصوم وقبول فكرة الحلول الوسط. في هذه الحالة – حين نمتلك القوة المنظمة الكافية والقدرة على التساوم- يمكن للإسلاميين والعسكريين أن يغيروا من حساباتهم ويتوصلوا لنتيجة مفادها ان هذا النظام هو أفضل ما يحمي مصالحهم. ساعتها نبدأ التحول الحقيقي للديمقراطية.

هذا لن يحدث بالاقناع، ولا بالشتيمة، ولا بالثورة، ولا بالدعاء يوم وقفة عرفات. يحدث هذا بطريقة واحدة لا ثاني لها: بناء قوة تمكنا من الضغط المستمر على الإسلاميين والعسكريين مع السعي للمساومة معهم. والهدف هو انتزاع إنجازات على طريق التحول الديمقراطي ومواصلة الضغط عليهم للسير قدما في هذا الاتجاه. ثم انتزاع المزيد من الإنجازات، ومواصلة الضغط عليهم. هكذا نبني قواعد وعادات للعمل الديمقراطي مع الوقت، ويطمئن كل طرف لقواعد اللعبة مع ترسخها، وهكذا. نضال ومكاسب ومساومة ونضال وخسائر ومساومة، ونضال ومكاسب ومساومة، بلا توقف، أبدا. الديمقراطية سعي متواصل ودائم وبلا نهاية. مثل النجم الذي نهتدي به في حركتنا؛ أقدامنا في الطين، وعيوننا مشرئبة ناحيته لنعرف اتجاهنا، دون أن نلمسه بأيدينا.

المطالبة بالديمقراطية الكاملة كما وصفتها في أول المقال أمر جميل، بشرط أن ندرك أنها لن تحدث فجأة، ولن تحدث بالكامل. لا بالمطالبة بها ولا بالثورة من أجلها، بل ببناء القوة والتنظيم والدفع والتساوم المستمر. الديمقراطية مثال نسعى اليه، ونرضى بما نحصله منها ونبني عليه. أما إن جعلنا المثال والحلم معيارا لقبول ورفض الواقع فلن نحصل لا الحلم ولا الواقع.

هذا كلام نظري، لكنه ليس كلام مثالي. كلام نظري لأننا في القاع، ومن ثم يبدو الحديث عن بناء القوة وهما. ولأن العسكريون يقمعوننا، ومن ثم يبدو الحديث عن التنظيم عبثا. ولأننا غاضبين، ومن ثم يبدو الحديث عن افساح مكان لخصومنا هراء: فنحن الذين نحتاج مكانا للتنفس. لكن فائدة الكلام النظري هي مساعدتنا على برمجة سلوكنا، بدل الاندفاع خلف الغضب وخلف اليأس وخلف الحماس وبقية المشاعر المدمرة. برمجة سلوكنا ضرورية ان كنا نريد الوصول لهدفنا. ومن ثم فالتفكير ضروري. الرؤية النظرية ضرورة أولى، يتبعها التخطيط، يتبعها التنفيذ. وهذا الكلام ليس كلاما مثاليا: الديمقراطيون لا يفسحون لخصومهم مكانا لأنهم كرام أو لطفاء، وإنما لأن مصلحتهم تقتضي ذلك. إن كنت ترى الديمقراطية من مصلحتك، فاعلم أبيت اللعن أن استدراج الخصوم للديمقراطية – بالضغط عليهم ورشوتهم – أيضا من مصلحتك.

هدف هذا المقال توضيح نقطة أساسية: أن تحويل نظام الحكم في مصر إلى نظام ديمقراطي يعتمد على قدرتنا نحن أنصار الديمقراطية على بناء قوة سياسية منظمة ومستمرة مع استعدادنا للمساومة مع خصومنا وافساح المجال لهم كي يحموا مصالحهم الأساسية. أما كيف نبني قوتنا وننظم أنفسنا و”هم لا يتركون لنا الفرصة”؟ فهذا سؤال لاحق على النقطة التي أوضحها هنا.