لماذا نستحق ضرب الجزمة؟

د. عزالدين شكري فشير

منذ خمس سنوات كان انصار الديمقراطية في مصر يتسائلون في جزع: “ماالعمل؟” وذلك في ظل إحكام العسكريين قبضتهم على الدولة والتوسع في القمع واستئصال كل مظاهر التحول للديمقراطية. نشرت وقتها، في ٩ فبراير ٢٠١٤، مقالا في “المصري اليوم” بعنوان “قوارب النجاة” أطرح فيه إجابتي لهذا السؤال، وقلت إن أمامنا ثلاث مهام إن أردنا تحقيق حلمنا

بلورة رؤية إيجابية للحكم

فرؤيتنا للدولة الجديدة يجب أن تتجاوز العموميات كالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية وتمتد إلى كيفية نحقيق كل ذلك لو كنا نحكم مصر. هذه الرؤية لا يصح أن تكون قائمة على حسن النوايا والإخلاص، وإلا لما كان هناك فرق بيننا وبين الذين نريد اراحتهم من الحكم. ولا أن تستسلم للكلام المطمئن من قبيل “مصر غنية بالكوادر والأفكار”، أو “أن المسألة مسألة إرادة سياسية”، فكل هذا كلام فارغ وهراء لا يختلف عن هراء السلطة الحاكمة.

هذه الرؤية يجب ان تكون نواة سياسات عامة صالحة للتطبيق. لن يكتبها أحدنا، بل ستنشأ من عشرات الأوراق في كل المجالات، من الاقتصاد الى اصلاح القضاء. وستثير كل فكرة اعتراضات ومناقشات. وهذا طبيعى وضرورى. فهذه الاعتراضات والمناقشات جزء من عملية بلورة رؤية يجمع عليها الناس الذين نظنهم يشاركوننا الحلم. وستستغرق وقتا. لكن كيف تطرح رؤى وتدير مناقشات والسلطات الأمنية تقمع كل من يحاول الكلام؟ هذه هي المهمة الثانية.

تنظيم أنفسنا بشكل مختلف

قلت وقتها أننا لو حاولنا بناء تنظيم كبير – شبهته بسفينة نوح – فإن السلطات الأمنية ستقضي عليه. سيمنعون الخشب، يثقبون السفينة، يدسون عليك من ينقلب ضدك ويشتت جهدك، يسجلون محادثاتك مع العمال ويذيعونها فى التليفزيون على أنها تعليمات تخريبية، وربما- إن واصلت البناء- يعتقلونك أنت ومن تجمع معك. هل قلت يعتقلونك؟ عفوا، قصدت أنهم سيقبضون عليك ويحيلونك للقضاء بتهمة الإساءة للوطن وتشويه صورته والإيحاء بأن هناك حاجة للنجاة منه. وبالتالي، بدلا من محاولة بناء تنظيم كبير، علينا بناء “قوارب نجاة كثيرة ومتعددة وتعلم السباحة”. قوارب النجاة يمكن أن تكون من الخشب أو المطاط أو الفايبر أو أى مادة أخرى: كل واحد يختار المادة التى يراها مناسبة، دون انتقاد الآخر، أو الحط من شأنه، أو الإصرار على أن قاربه هو الذى سينجو وحده. قد يكون القارب صغيرا لا يتسع إلا لعدة أشخاص، وقد يكون كبيرا يتسع للعشرات. يمكن لقاربك العمل فى صيد السمك أو نقل الناس أو توزيع المواد والسلع أو التنزه، أو الإسعاف، أو أى شىء تختاره. المهم أن يكون لديك قارب، أو تكون جزءا من فريق لديه قارب، بحيث تجد مكانا للنجاة عند الضرورة. ساعتها لن يحتاج الأمر كثيرا من الجهد للتنسيق بين كل هذه القوارب.

بمعنى آخر، يمكنك أن تعمل وحدك: تدرس سياسة الصحة، دور التمويل المجتمعي في تطوير التعليم، دراسة مقارنة لدور شركات جمع القمامة في التنمية، كيفية توفير الخبز المدعم في افريقيا، بناء شبكة إعلامية قادرة على تجاوز السيطرة الحكومية، تجارب اصلاح الأمن، الى آخره. إن كان المجال العام مغلق على من يعيش في مصر فهو ليس مغلقا على من يعيش خارجها. وإن كان مغلقا في مصر فهو لا يمنع التعليم (بعد) ولا يمنع كتابة رسائل الماجستير والدكتوراة في موضوعات التنمية والاقتصاد والسياسات العامة، ولا يمنع أربعة شباب أو شابات من اللقاء وتبادل الكتب. ولا يمنع إقامة شركات ومخابز وعيادات. كلما نزل حد السيف أنزل برأسك قليلا بحيث تحافظ عليها ولكن واصل التعلم والتواصل مع غيرك. هناك عشرات الأشكال التنظيمية الممكنة تحت القمع. لا تعرفها؟ اسأل جوجل، واقرأ، وتعلمها. جرب، ولكن بحرص.

الاستماع للناس

المهمة الأخرى هى الاستماع المستمر لشكاوى الناس ومخاوفهم وجعلها بوصلتنا. بدل الرغي الفارغ، وأوهام “توعية الناس”، والمحاولات البائسة لحشدهم ودعوتهم للانتحار باسم الثورة. اغلق فمك ستة شهور وافتح آذانك وقلبك واسمع الناس. لا تذهب بعيدا، لا “تنزل” للناس بل استمع الى زملائك وجيرانك وأهلك.  وهمٌ كبيرٌ أن نجعل من أنفسنا أوصياء على غيرنا بحجة العلم أو الحرية. ففي نهاية الأمر لن نجبر الناس على الإبحار معنا فى اتجاه يخافون منه، ولن نخطفهم أو نأخذهم رهائن، حتى لو اعتقدنا أن فى ذلك مصلحتهم. ولم ولم نسمع الناس لما عرفنا كيف نتواصل معهم.

قلت، من خمس سنين بالتمام والكمال، أن هذه المهام الثلاث لن تنجز فى شهر ولا فى سنة. وليس فى ذلك مدعاة لليأس أو الاكتئاب، بل للصبر والتخطيط الواقعى البارد. أما المتعجل الذى يصرخ أننا لا نستطيع الانتظار، وأن الطوفان سيدهمنا، وأن ضغط الواقع اليومى لا يطاق، فأقول له قول خاتم الرسل: “إن المُنبتَّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى”.

فما الذي فعلناه خلال هذه السنوات الخمس؟

عكس هذه المهام الثلاث بالضبط.

بدل بلورة الرؤية استمررنا في الكلام العام والمطالبات الفارغة التي يجمع عليها الناس كلها ولا يعرف أحد كيف ينفذها. وأصبح الرئيس يسألنا كل أسبوع كيف أدير البلد بشكل مختلف فلا نرد إلا بالسخرية أو العموميات أو تكرار المطالب.

وبدل التنظيم البطيء الآمن أطلق بعضنا مبادرات كبرى: تحالف هذا وجبهة ذلك، حملة الفريق الرئاسي والمبادرة الرئاسية لهشام جنينة وسامي عنان وهل سيرشح خالد علي نفسه مرة أخرى أم لا وغير ذلك. وماذا كانت النتيجة، مزيد من الفشل والاكتئاب واليأس والغضب، ولا خطوة واحدة للأمام.

وبدل الاستماع للناس ملأنا الدنيا عديدا على ما ضاع، وشتيمة فيمن نكرههم، وتبادل للاتهامات بيننا، ثم دعوات يائسة وغبية كالتحالف مع الإسلاميين أو النزول للشارع.

ليس الهدف من هذا المقال التباهي بما قلت ومعايرة غيري بما فعل. واعتذر من القاريء لو كان المقال يخلق هذا الانطباع. الهدف من المقال التذكير بأن هذه هي المهام التي لن تقوم لنا قائمة دونها. وأن هذا الكلام ليس جديد. وأن التحجج بضيق الوقت وضغط الظروف لا جديد ولا مفيد: لم ينفعنا في السنوات الخمس الماضية ولن ينفعنا في السنوات الخمس القادمة.

هدف المقال التذكير بموقفنا وبمسئوليتنا عن هذا الموقف. بعد خمس سنوات من انهيار التحول الديمقراطي صرنا في الحضيض. وسنظل في هذا الحضيض – بل سننزل درجات إضافية – طالما لم نضطلع بالمهام التي يتعين علينا أدائها كي نقف على أقدامنا ونتحرك للأمام. لم نقم بخطوة واحدة في خمس سنوات، وبالتالي سنتأخر سنوات إضافية قبل أن نقف على أقدامنا. ولو لم نقم بهذه المهام فلن نقم على أقدامنا أبدا. لن تحدث الأشياء الطيبة من تلقاء نفسها، أبدا. ولو قامت ثورة جديدة وأطاحت بمن في الحكم فلن نحكم نحن مصر ولن نحقق حلم العيش والحرية وإنما سيحكمها من يستطيع ساعتها ملء الفراغ الأمني والسياسي. وسنظل نحن مطية للرائح والغادي يصعد على أكتافنا لسدة الحكم ثم يضربنا بالجزمة بعدها. وسنستحق هذا المصير لأننا بدلا من أن نفعل ما نستطيع نتباكى على ما لا نستطيع. بدلا من أن نأخذ خطوة صغيرة تنقلنا للأمام بأمان نقفز في الأحلام ونكسر عظامنا.

هل تفكر الآن أني أقسو في كلامي ولا أتفهم الظروف؟ أقول لك: لا أحد يهتم بالظروف. لا أحد يهتم بتبريراتنا لفشلنا غير أمهاتنا اللواتي تطبطب علينا. في أول المطاف وآخره، النتيجة واحدة: الشهداء ماتوا، والأحياء يموتون في السجون والمنفى وتحت القمع، ويموت معهم حلم العيش والحرية والمساواة. هذا هو المهم. إما نستطيع تغيير هذا الواقع، بعمل منظم آمن بطيء ولكنه ثابت ومتراكم، أو لا نستطيع، وساعتها نستحق ما يجرى لنا.