المصالحة والانفراج والأمل

تولى الحكم في ظروف صعبة، في وسط أزمة سياسية داخلية وخارجية طاحنة ومظاهرات ومطالبات ومخاوف من تفاقم الانقسامات الداخلية. لم يأت بالانتخاب، لكن دفع بنفسه داخل الأزمة أو دفعه البعض ممن أرادوا انقاذ البلاد من الأسوأ. لم يأت من صفوف المعارضة ولا من الثوريين، بل أتى من النظام الحاكم وإن لم يكن من بؤرة الضوء.

هكذا تولى مقاليد الحكم.

بدأ حكمه بالأفراج عن آلاف السجناء ممن يقضون عقوبات لها صلة بالصراع السياسي بما في ذلك صحفيين وخصوم سياسيين وأحد المحكوم عليهم بالإعدام. أطاح بمدير المخابرات العامة وعدد من الشخصيات الأمنية المكروهة، وأعلن عن حزمة من الإصلاحات الديمقراطية لإنهاء سيطرة مجموعة بعينها على مقاليد الحكم وفتح المجال العام أمام الراغبين في المشاركة السياسية السلمية. وقرر رفع الحجب عن كل المواقع الإخبارية المحجوبة معلنا أن حرية الرأي ضرورية لأي مجتمع صحي.

وحين سألوه عن الإرهاب قال إن الأجهزة الأمنية التي تلوي عنق القانون وتعتقل الناس وتعذبهم هي أيضا تمارس الإرهاب بل وتبذر بذوره في المجتمع، وأنه لم يعد هناك قرية واحدة في البلاد تخلو من شخص تم اعتقاله وتعذيبه من قبل الأمن، وأن كل هذا يجب أن يتوقف كي يتوقف الإرهاب.

وفي مواجهة أزمة اقتصادية طاحنة، أعلن نهاية سيطرة الدولة على الاقتصاد وضرورة تغيير دورها بحيث تكون محفزا وداعما للنشاط الاقتصادي للأفراد والمجموعات لا بديلا عنهم. قال إن سيطرة الدولة على الاقتصاد تفتح باب الفساد، وتقضي على المبادرة والابداع اللازمين للمنافسة الاقتصادية في عالم يقوم على المنافسة، وتهدر المال العام في مشروعات ومجالات لا تشكل بالضرورة أولوية. قال إن دور الدولة حماية ورعاية الفئات الأضعف وضمان الحماية الاجتماعية وتأمين توازن الاقتصاد بشكل عام لا السيطرة على هذا الاقتصاد. وبدأ سلسلة من المشاورات المحلية حول أولويات الانفاق العام.

وللتعامل مع العلاقات الخارجية والإقليمية المتأزمة أطاح بـ “ثوابت” السياسة الخارجية. حسبها ببساطة ودون تقعر: إن كانت علاقات بلاده بجيرانها وبالعالم متأزمة فهذا يعني أن سياستها الخارجية فاشلة. تغيير هذا الوضع يتطلب تغيير هذه السياسة. ومن ثم أعلن تغيير موقف بلاده بالكامل إزاء جارتيه الشرقية والجنوبية، متصالحا مع واحدة ومنهيا لصراع بينهما منذ استقلالهما، ومبديا تفهما لمطالب وظروف الأخرى، وساعيا لادماج مصالحهما مع مصالح بلاده. ثم وسع دائرة المصالحة الإقليمية لتشمل خصوم ومنافسين تقليديين تناصبهم بلاده الشك بل والعداء منذ نصف قرن.

كل هذا في ثلاثة أشهر. تغير خلالهم الجو العام في البلاد تمام، من الاختناق والأزمة واليأس والعنف الى الانفراج والارتياح والتفاؤل. من انسحاب الشباب وأصحاب العقول والمواهب والأموال ومحاولتهم مغادرة البلاد الى حماس مفاجيء ورغبة في المشاركة. بل إن إحدى فصائل المعارضة المسلحة أعلنت عن وقف نشاطها والعودة للعملية السياسية مؤكدة أن لجوئها للعنف كان نتيجة استئثار الفمجموعة الحاكمة بالسلطة وإغلاقها للمجال السياسي. بدل البؤس واليأس عاد الأمل يتفتح في الميادين.

لا، هذا ليس حلما آخر من أحلامي. هذا وصف مبسط للتغييرات التي أدخلها رئيس الوزراء الأثيوبي على حكم بلاده خلال الشهور الثلاثة الماضية. كل هذا حدث بقرارات، بتغيير في السياسات، في الرؤية لكيفية الحكم. لم يحتاج أي من هذا طفرة في الموارد ولا تغير في الثقافة ولا تعديل للنظام الدولي. كل ما احتاجه هو تغيير من بيده الحكم للنظرة التي يرى بها السياسة والحكم.

رفضت المصري اليوم نشره بحجة “حساسية الموقف في القرن الأفريقي” وكانت هذه نهاية علاقتي بالجريدة