المشاركة أم المقاطعة؟

الذى يسأل هذا السؤال هو من يشعر بأن حلمه فى دولة ديمقراطية حديثة يتبدد، وأن هذه الانتخابات مسرحية نهايتها معروفة سلفا. بعض هؤلاء يفضل المقاطعة (أو إبطال الأصوات)، التزاماً بالمبادئ، فهم يرون أن نتيجة انتخابات الرئاسة محسومة، ليس نتيجة اختيار شعبى يتم فى مناخ ديمقراطى حر، بل نتيجة شحن المواطنين وتخويفهم عبر إعلام منحاز وأجهزة أمنية تطارد المنتسبين لثورة يناير، وتعيد أسوأ ممارسات النظام القديم. ومن ثم لا يريدون المشاركة كى تتبدى حقيقة الانتخابات أمام الجميع: مسرحية تسعى لإضفاء شرعية ديمقراطية على ثورة مضادة. إن سألت المقاطعين عن النتيجة العملية لموقفهم أجابوك بأن المشاركة كالمقاطعة لن تؤدى لنتيجة إيجابية، لكن ينال المقاطع شرف اتساقه مع مبادئه.

وهناك من يرى أن المقاطعة ستحرج النظام الحاكم وتزيد الضغط عليه وتشعره بالقلق مثلما حدث بعد عزوف الشباب عن المشاركة فى استفتاء الدستور، بما يدفعه لتقديم تنازلات. وبدلاً من المشاركة وفقا لقواعد غير عادلة تضمن استمرار الاستبداد، يجب مقاومة هذا الاستبداد من خارج النظام- تماما كما حدث مع حكم الإخوان- حتى تهب ثورة ثالثة تطيح بالاستبداد.

ثم هناك من لا يعجبه أى من المرشحين، ويرفض منطق اختيار الأقل سوءاً و«عصر الليمون»، ومن ثَمَّ يفضل العزوف عن الأمر برمته.

كل رأى وموقف سياسى له وجاهته ومنطقه، ومع احترامى لهذه الوجاهة إلا أن هناك نقطتين تستحقان المراجعة وبسرعة فى منطق المقاطعين. أولاً: إن الثورة الثالثة التى يحلم بها البعض ستكون كابوسا أكيدا على أنفاس الجميع، لأنها ستكون انفجارا يعكس فشل القوى السياسية ومؤسسات الدولة معا، وبالتالى ستؤدى إلى فوضى ممتدة لأجل غير معلوم أو عودة من يستطيعون فرض النظام بالقوة. وفى كل الأحوال لن تؤدى مثل هذه الثورة إلى التحول الديمقراطى المنشود، خاصة فى ظل الحال التى عليها التيار الديمقراطى المشتت.

ثانياً: لاشك أن المواقف الأنيقة حلوة ومريحة للضمير والأعصاب، لكنها كالمخدر، يزول مفعوله سريعاً. لا ينقص التيار الديمقراطى اتخاذ مواقف مبدئية مشرفة. لا ينقص التيار الديمقراطى تسجيل النقاط وإحراج المستبدين أخلاقياً. ولا ينقص التيار الديمقراطى الحلم بالثورة أو المشاركة فيها ودفع ثمنها أرواحاً وإصابات ومعاناة إنسانية حقيقية.

ما ينقص التيار الديمقراطى هو التنظيم، وبناء شبكة تلم أنصاره وتستطيع إنجاز مهام محددة فى أوقات محددة. ما ينقص التيار الديمقراطى هو التدرب على خوض الانتخابات فى الواقع المصرى الإدارى والسياسى والاجتماعى والأمنى وليس فى «يوتوبيا» مكتملة الديمقراطية. ما ينقص التيار الديمقراطى هو تعلم العمل الجماعى، بما يعنيه ذلك من التعاون مع أناس تختلف معهم أو لا تحبهم. ما ينقص التيار الديمقراطى قبول فكرة أن السياسة حمّالة أوجه، وأن لكل موقف مزايا وعيوباً، وأن الاتفاق على موقف جماعى أياً كان خير من التمسك بما نعتقده موقفاً أفضل. ما ينقص التيار الديمقراطى أن يبلور حلولا عملية للمشكلات التى نواجهها كمجتمع وكدولة يستطيع تنفيذها حين تتاح له فرصة الحكم. ما ينقص التيار الديمقراطى أن يقتنع بضرورة الاشتباك مع الواقع السياسى بطينه بدلاً من لفظه والتعالى عليه. ما ينقص التيار الديمقراطى أن يطرح نفسه على أهل الكنبة لا باعتباره مغامرا ثوريا سيدمر الأرض وما عليها، ولكن باعتباره تيارا قادرا على نقل البلاد نحو حكم رشيد وناجح.

المشاركة فى هذه الانتخابات، وفى كل انتخابات تليها، هى الطريق الوحيد الذى يسمح للتيار الديمقراطى باستكمال هذه الأشياء التى تنقصه. ولذا أدعو أنصار الدولة الديمقراطية الحديثة إلى المشاركة فى الانتخابات، وبقوة، بغض النظر عن النتيجة. وإن كنت تراها مسرحية، تذكر أن مشاركة الجمهور كفيلة بتحويل أى مسرحية إلى حلبة صراع حقيقية. وباعتبارى مثلت على مسرح الجامعة عدة مرات، أؤكد لك أن الجمهور هو سيد العرض المسرحى: إن بدأ فى الاعتراض، أو تحرك ناحية خشبة المسرح، لا يمكن لأى فرقة مسرحية أن تتم عرضها.

سيظل هناك من يفضل المقاطعة، يأسا أو غضباً. وأقول له: لا تتعب نفسك، خليك بالبيت مثلما غنت فيروز. واصل اليأس والإحباط والغضب، (لكنك غالباً ستمضى بقية حياتك يائساً محبطاً وغاضباً). سيظل هناك من يفضل الإمساك بعلم النقاء على السعى فى طين الواقع. أقول له: خليك ممسك بالعلم، لأن الطين لن يزول (إلا لو هبطت عليك «اليوتوبيا» التى تنتظرها بمعجزة إلهية).

أما البشر الغلابة مثلى، الذين يريدون الحياة ما استطاعوا إليها سبيلا، ويسعون خلف أحلامهم وهم يعلمون أنها لن تتحقق فورا، وربما لا تتحقق بالكامل. هؤلاء الذين يفضلون السعى فى الطين كى يخرجوا منه على الغضب والتعالى فسيشاركون فى هذه الانتخابات وكل انتخابات بها مرشح ديمقراطى، حتى تتحول مصر إلى دولة ديمقراطية حديثة.

نشرت في المصري اليوم في ٢٦ ابريل ٢٠١٤