شجر البرتقال قد يطرح مرتين

معظم القيادات الأمنية المصرية تعتقد أن ثورة يناير عبارة عن مؤامرة دبرتها الولايات المتحدة بالتعاون مع آخرين من داخل مصر وخارجها، مستغلة حالة السخط الشعبى المتزايدة. هذا السخط تراكم نتيجة أخطاء الرئيس الأسبق مبارك وبطانته، سواء الأخطاء السياسية كمشروع التوريث وتزوير الانتخابات الفاضح والتقارب العلنى مع إسرائيل، أو الأخطاء الاقتصادية والاجتماعية مثل تلك التى أدت لانتشار الفساد وتضخمه، وتدهور الخدمات بصورة حادة، وصعوبات المعيشة لقطاعات متزايدة من الشعب. المؤامرة، فى نظر القيادات الأمنية، هدفها المباشر تغيير النظام وتسليم حكم البلاد لجماعة الإخوان التى اتفقت مع الجانب الأمريكى على الخطوط العامة للحكم فى مصر والمنطقة.

أما هدفها غير المباشر، والأقل وضوحا، فهو إدخال المنطقة فى حالة من الفوضى الممتدة بما يخدم مصالح الولايات المتحدة الأمنية وبالطبع مصلحة حليفتها إسرائيل. هذه القيادات الأمنية لا تنفى صدق مشاعر الناس الساخطة التى خرجت فى الشوارع والميادين، ولا تقلل من معاناتهم ورغبتهم فى التغيير وبناء نظام جديد، لكنهم يرون هذا السخط أداة، حقيقية وصادقة نعم، لكن تم استخدامها دون علم أصحابها من جانب هؤلاء المتآمرين، وأولهم حكومة الولايات المتحدة الأمريكية.

هذه النظرية لا تفسر الثورة المصرية فقط. فـ«الثورات» العربية كلها تبعت نفس الخط: تونس كانت حقل التجارب، ومع مصر جاءت ليبيا واليمن وسوريا وغيرها، إلا من نجا بنفسه باتفاق أو بإجراءات استباقية. وخارج المنطقة، هناك محاولات مماثلة جرت فى فنزويلا والبرازيل وغيرهما. فهذه الخطة تعبر عن نموذج جديد لسعى واشنطن تغيير الأنظمة المعادية لها، أو على الأقل الضغط عليها. لكن أوكرانيا هى المثال الأبرز لهذه الخطة، وهى التى سبقت «الربيع العربى» وأرست نموذجه منذ عام 2003، حين اندلعت فيها «ثورة برتقالية» أسفرت عن الإطاحة بالنظام الموالى لروسيا وإحلال نظام موال للدول الغربية مكانه.

لست هنا فى معرض مناقشة هذه النظرية، ولا أريد الدخول فى جدل بشأن مدى صدقها أو دقتها. بل أريد من القارئ افتراض سلامتها ولو مؤقتا، حتى ينتهى من قراءة هذه المقالة. السؤال الذى أريد طرحه على كل من يعتقد بصحة هذه النظرية هو التالى: ماذا تعنى التطورات الأخيرة التى جرت فى أوكرانيا؟ هل تعنى شيئا لنا؟ هل تمثل تحذيرا ما؟ هل هناك دروس نتعلمها مما يجرى فى أوكرانيا؟ وطبعا يرد القارئ الملول: «مصر ليست أوكرانيا». وأقول مهلاً علىّ. تمعن قليلا فى الحالة الأوكرانية، وفقا للنظرية التى تؤمن بها أنت.

المؤامرة الأمريكية فى 2003 (الثورة البرتقالية) تم إيقاف تنفيذها من خلال ثورة مضادة قادتها أجهزة الأمن والدولة الأوكرانية استطاعت، من خلالها، وبالصندوق الانتخابى، الإتيان برئيس موال للنظام القديم ولروسيا، ثم الزج برئيسة الوزراء التى تمثل نتيجة «الثورة البرتقالية» فى السجن بتهم فساد وإساءة استخدام السلطة. هل يذكرنا هذا بشىء؟ طيب، لنتابع.

استمرت الثورة المضادة فى النجاح، وتم إخماد المؤامرة البرتقالية الأمريكية لسنوات. لكن أين ذهبت المؤامرة الأمريكية؟ هل تبخرت؟ هل غيرت الولايات المتحدة خطتها الاستراتيجية فى المنطقة وتخلت عن استمالة أوكرانيا أو جزء منها؟ وأين ذهبت المظالم التى دفعت برتقاليى الشعب الأوكرانى الأبرياء للخروج فى المظاهرات؟ بمعنى آخر أين ذهب الشجر الذى طرح ثورة البرتقال؟ هل تحسنت ظروف الشعب المعيشية خلال سنوات الثورة المضادة؟ هل تم تحديث مؤسسات الدولة وخدماتها بحيث تواكب تطلعات الناس؟ هل تم القضاء على الفساد فى قطاعات الطاقة والعقود الحكومية والمزايا؟ الإجابة عن كل الأسئلة الأخيرة هى لا. لم يتم شىء من هذا. طيب وبعدين؟ ماذا حدث للبرتقال؟

طرح مرة أخرى. عاودت المؤامرة الأمريكية استغلال السخط الشعبى الذى زاد، وأطلقت ثورة جديدة. ولأن المؤامرة قد تعلمت الدرس، ولأن الشعب الغاضب زاد غضبه، فقد أطاحت هذه الثورة بالنظام القائم كله.

ربما لا يستقر الأمر للثورة الأوكرانية الجديدة. ربما تنجح قيادات الدولة المطاح بها، بمعونة روسيا، فى البقاء. لكن من المؤكد أنها لن تعود لحكم أوكرانيا ككل. ومن المؤكد أن أوكرانيا أمامها أوقات أشد ظلاما مما عاشته. السؤال إذاً: هل لدى القيادات الأمنية المصرية خطة لتفادى هذا السيناريو؟ هل لديهم خطة مثلا للتفاوض مع الأمريكان المتآمرين أم سيمضون فى المواجهة معهم بلا نهاية؟ وإن كانوا ينوون المواجهة، هل لديهم خطة لإزالة شجر البرتقال: هل لديهم خطة عملية للقضاء على أسباب سخط الناس التى دفعتهم للانفجار، وموارد لتنفيذها فى إطار زمنى معلوم، أم ينوون الاعتماد على النوايا الطيبة والإخلاص وتوجيه النداءات للشعب أن يفطن للمؤامرة؟

التجربة الأوكرانية تقول إن استمرار السخط هو الأرجح لأن أسبابه عميقة، وأن «المؤامرة» تعود حتى لو توقفت لفترة، ومن ثم يحسن بالجميع الإعداد ليوم تطرح فيه أشجار البرتقال مرة أخرى.

نشر في المصري اليوم في ١٥ مارس ٢٠١٤