ما الذي تغير؟

لماذا فشلت الأجيال السابقة فى إنشاء تنظيمات سياسية فاعلة، ولماذا سينجح هذا الجيل فيما فشل فيه سابقوه؟

ضعف التنظيمات السياسية فى مصر لم يحدث بالصدفة، ولا هو مجرد تقاعس وسوء إدارة من القائمين عليها. وإنما يرجع جزء كبير منه إلى الطريقة التى تطورت بها مصر، وتحديداً للظروف التى قامت فيها الدولة المصرية الحديثة، وتفاعلها مع المجتمع والأطراف الخارجية خلال القرنين الماضيين.

ودون الدخول فى تفاصيل مملة، فإن تاريخ الدولة والمجتمع قد تشكل من خلال صراع معقد رافق عملية التحديث التى خاضتها مصر. فى هذا الصراع ضعفت تنظيمات المجتمع التقليدية أكثر (وقد كانت أصلاً ضعيفة تحت حكم المماليك والعثمانيين). ونشأت تنظيمات أخرى- أيضاً ضعيفة- حول جهاز الدولة الذى كان يقود كل شىء فى المجتمع: يفرض الضرائب ويعفى منها، يوزع الأراضى أو يقتطع منها، يمنح التراخيص بمزاولة التجارة والصناعة أو يحجبها، يحدد مضمون التعليم والأفكار والمعلومات التى يتلقاها الناس، ويضع القوانين ويحدد طريقة تطبيقها، هكذا. وفى ممارستها لهذه الحقوق الواسعة، كانت الدولة تستمد القوة من علاقتها بالقوى الخارجية أكثر مما تعتمد على تأييد المجتمع. بل كانت تلعب دور الوسيط بين هذه القوى وبين المجتمع المصرى اقتصادياً، وأمنياً، وسياسياً، بل وفكرياً.

فى هذا السياق غير المتوازن، ترسخ اعتماد المجتمع، أفرادا ونخبا وتنظيمات، على الدولة بدلاً من أن يكونوا هم من يفرز هذه الدولة ويمنحها ويمنع عنها. أصبح كل فرد معلقا من رقبته، يعتمد فى حياته كلها على رضا الدولة، أو على الأقل عدم إغضابها. أصبحت لدينا دولة مسيطرة، بمؤسساتها الأمنية والاقتصادية والقانونية والإدارية، ونخب ملتحقة بالدولة حكماً أو معارضة هادئة أو مهادنة، وجمهور عريض مفتت، كل فرد فيه ذرة مستقلة، لا يجمعها مع غيرها شىء متماسك.

وحتى النضال لتحقيق الاستقلال السياسى ظل نخبوياً ولم يأخذ طابعه الجماهيرى إلا حين التف الناس حول «قائد» توسموا فيه الإخلاص والقدرة: سواء كان عرابى أو زغلول أو ناصر. وظل هذا الالتفاف لصيقاً بالقائد البطل، دون أن يترجم لتنظيم قوى يقود الحركة السياسية إلا حين كان هذا التنظيم نفسه لصيقاً بالبطل أو بالحكومة- كالوفد- أو امتداداً لجهاز الدولة المانحة المانعة، كالاتحاد الاشتراكى، ثم الحزب الوطنى. أما بقية الأحزاب والتنظيمات السياسية فظلت ضعيفة أو نخبوية (باستثناء جماعة الإخوان المسلمين، وتلك قصة نعود لها لاحقا).

إن كان الحال كذلك، فما الذى تغير؟ ولمَ سينجح هذا الجيل فى إنشاء تنظيمات سياسية واجتماعية قوية؟

الذى تغير، وبشكل عميق، هى علاقة المجتمع بالدولة والعالم. فمنذ الثمانينيات والدولة تفقد تدريجيا احتكاراتها، فى العالم كله. مع تغيرات الاقتصاد، لم تعد الدولة مصدر الرزق الوحيد أو حتى الرئيسى. ومع ثورة الاتصالات لم تعد القناة الوحيدة أو حتى الرئيسية للمعلومات أو الأفكار أو التواصل بين الأفراد والمجموعات، بل فقدت كثيراً من السيطرة على هذه الاتصالات. كما تسارعت عملية توحيد القيم والقواعد، بل والأحلام فى العالم كله بشكل غير مسبوق.

ومع تقلص سيطرة الدول على حكم ما يجرى فى أراضيها أصبح للناس حياة مستقلة ومرتبطة ببقية العالم خارج إطار الدولة، سواء فى العمل والتجارة أو التعلم والتواصل والمشاركة فى القيم والأحلام. لم يفقد إطار الدولة أهميته بالكامل، إلا أن المجتمع أصبح أكثر قوة إزاء الدولة، وأكثر قدرة على الصد والرد. لكن هذه القدرة ترتبط مباشرة بالتنظيم والتواصل والتشبيك، وهذا هو بيت القصيد.

هناك تغيير متزامن وفى اتجاهين: تتناقص أهمية إطار الدولة لحياة الأفراد والجماعات، وتتزايد أهمية التنظيمات لحياتهم ولتحقيق أحلامهم. هل تريد إنتاج سلعة أو خدمة؟ تحتاج الدولة بشكل سلبى (غالباً أن تزيح قيودها من أمامك)، لكنك ستحتاج تنظيماً ما ليساعدك على بيع بضاعتك أو خدماتك فى السوق المحلية أو الأجنبية. هل تريد أن تبرع فى مهنة أو فن أو رياضة؟ تحتاج الدولة بشكل سلبى (غالباً أن تتركك فى حالك)، لكنك ستحتاج الانخراط فى شبكة ما كى تعينك على تحقيق هدفك. تحقيق الأحلام، الفردية والجماعية، أصبح يعتمد على قدرة الناس على تنظيم أنفسهم أكثر مما يعتمد على الدولة. والحاجة أم التغيير.

لو لم تكن علاقة المجتمع بالدولة والعالم قد تغيرت لما انفجرت الثورة المصرية. لكن تغير هذه العلاقة لا يعنى اختفاء أمراض الماضى. واحتياجنا لتنظيم أنفسنا لا يعنى بالضرورة أننا سننجح فى ذلك. هناك مجتمعات ودول انفجرت وظلت متفسخة، ومجتمعات أنقذت نفسها. الفارق بينهما يرجع لقدرة الجيل الجديد على التعامل بذكاء مع أمراض الماضى واستثمار الظروف الجديدة لخلق شبكات تفيد الناس وتتطور إلى تنظيمات حقيقية ومؤثرة. كيف؟ نستكمل فى الأسبوع القادم.

نشر في المصري اليوم في ١٥ فبراير ٢٠١٤