مواصلة الأحلام

أحاول تجاهل ما يحدث من حولنا هذه الأيام، والتركيز فى بيان أحلام الثورة وتفصيلها. قد يجد القارئ فى هذه الأحلام مضيعة للوقت أو هروباً من الواقع، وأنا أتفهم موقفه، ولا أدعوه لتغيير رأيه. فمادام يجد فائدة ما فى متابعة ما يحدث من حوله فليتفضل، وسيجد ولا ريب ما يرضيه من كتابات تتناول «الأحداث» بالشرح والإدانة، بل والتحريض. ولا أمانع فى أن يعتبرنى هذا القارئ صوتاً شارداً، منفصلاً عن الواقع، أفكر فى أشياء لا فائدة منها، فبم تفيد الأحلام فى مواجهة الإرهاب؟! لكنى أطلب منه بضع دقائق فقط، ينظر خلالها فيما أقوله، فربما، ربما عاودته هذه الأحلام فيما بعد، حين تنتهى الحرب على الإرهاب، ويحتفل بالنصر المبين- إن كتب الله له النجاة- ويتلفت حوله بحثا عن طريق فيما تبقى، نحو ما تبقى من حلمه القديم، الذى من أجله دخل فى كل هذا.

سنحتاج أحلام الثورة حين يتوقف الدمار ونشرع فى البناء. ساعتها سندرك- فجأة كعادتنا- أننا لم نُعد العدة للبناء: لم نفصل رؤيتنا للمستقبل، ولم نترجمها لبرامج وسياسات. وبما أنى كاتب ولست سياسياً مشغولاً بالانتخابات، ولا مقاتلاً منخرطاً فى الإرهاب أو فى مكافحته، فقد قررت أن خير ما أفعله بوقتى هو تفصيل هذه الأحلام وبيانها، عساها تنفع حين نحتاجها.

ما يمر به المجتمع المصرى- فى رأيى- هو بالأساس ثورة فى الوعى: فى الأفكار والقيم وطريقة التفكير. لكن هذه الثورة ركزت تحولاتها على الجانب السياسى، فأسقطت شرعية الاستبداد وشعارات وشخصيات وأوهاما كثيرة عشنا تحتها حقبا طويلة. وجاء حكم الإخوان وحلفائهم فدفع الناس دفعا لمراجعة شعارات ورثناها حول علاقة الدين بإدارة شؤون الدولة، وانتهى الأمر بلفظ كثير من هذه الشعارات وانحياز أغلبية الناس- تلقائيا ودون كثير كلام- نحو نظرة عملية لإدارة شؤون الدولة، تعلى من قيم الكفاءة وتفصلها عن المعتقدات الدينية دون إقلال من شأن أى منهما.

وفى تركيزنا على السياسة لم نمد عملية المراجعة بنفس الطريقة الثورية لبقية جوانب حياتنا بعد. فعندما نتحدث عن حلم الثورة ببناء دولة جديدة تنصرف أذهان معظمنا إلى السياسة: دولة ديمقراطية بسلطات متوازنة مستقلة تراقب بعضها بعضاً، وتمثيل شعبى حقيقى ورقابة على المسؤولين المنتخبين. لكن حلم الدولة الجديدة يشمل أكثر بكثير من هذا الجانب السياسى، مثل إدارة الاقتصاد وعلاقتنا بالعالم الخارجى. فى هذه المجالات، مازلنا نستخدم الشعارات التى استخدمتها المعارضة القديمة، اعتقادا منا أنه مادامت هذه الشعارات معارضة «للنظام القديم» فلابد أنها أفضل من سياسات هذا النظام. لكن من قال إن المعارضة القديمة لم تكن جزءا مكملا للنظام؟

ولننظر لإدارة الدولة للاقتصاد. كل النماذج التى عرفناها خلال القرن العشرين فاشلة، من الليبرالية التابعة، إلى سيطرة الدولة على الإنتاج، إلى الانفتاح التابع المهلهل والفاسد، إلى المزج بينها. كل هذه النماذج فشلت، ولا داعى للمراء والجدل فى هذا. اختلفت فى توزيع الكعكة البائسة التى جلست فوقها، لكنها كلها فشلت فى توسيع هذه الكعكة ولو للدرجة التى تواكب نمو السكان وتفى باحتياجاتهم الأساسية. صحيح أن فشل هذه النماذج لم يكن متساوياً، لكن ما فائدة التبرير والجدل فى درجات الفشل؟ وهل من العقل التمسك بنموذج فشل من قبل مجاملة للأيديولوجيا؟ لنواجه تاريخنا الاقتصادى بنفس الثورية التى نواجه بها تاريخنا السياسى، ونعترف بأن كل نماذج إدارة الدولة للاقتصاد التى عرفناها فى مصر فشلت، سواء تلك التى تتخيل وجود اقتصاد حر لا تدخل فيه للدولة، أو تلك التى تتصور أن ملكية الدولة لأدوات الإنتاج تقلل من الاستغلال أو تحقق التنمية.

التخلص من أوهام الماضى فريضة كى نستطيع البحث عن نموذج اقتصادى غير تلك النماذج التى لو كانت قد نفعت لما أصبح هذا حالنا. نحتاج نموذجا جديدا، وسنجده، وسنبنيه، لأننا فى غالبيتنا عقلاء وعمليون، ولأن العالم من حولنا يمضى بوتيرة لا تسمح للأغبياء بالحياة، ولأننا لم نعد معصوبى الأعين ننظر فقط تحت أقدامنا، بل زالت العصابة وفتحنا عيوننا على العالم ورأيناه. لا تدع الاقتصاديين يخيفونك بمصطلحاتهم، ففهم واختيار النموذج الاقتصادى المناسب لا يحتاج شهادات ولا أكثر من العقل المتاح للجميع. كل المطلوب أن نحدد الأهداف التى نريد للدولة تحقيقها فى إدارتها للاقتصاد، ثم نرى كيف تحقق النماذج المختلفة هذه الأهداف، وبأى أدوات وأى سياسات.

وأزعم هنا أن هناك سبعة أهداف رئيسية نريد من الدولة تحقيقها من خلال إدارتها للاقتصاد: مساعدة الناس على السعى خلف أرزاقهم، وحمايتهم من تغول بعضهم على بعض أثناء هذا السعى، وحماية الاقتصاد وتنميته، وحماية المجتمع من قسوة السوق وآلياتها، وتوفير حد أدنى من الرعاية لجميع المواطنين، وتحقيق الحد الأقصى من العدالة الاجتماعية، وإدارة التداخل مع الاقتصاد العالمى بما يحمى المواطنين وحياتهم.

ونواصل الحلم.

نشر في المصري اليوم بتاريخ ٢٨ ديسمبر ٢٠١٣