الحلم الأول

قلت إن المطالب السياسية والاقتصادية والفئوية التى تملأ البلاد تعكس حلم الثورة بإقامة دولة جديدة. هذا الحلم ينطوى على جوانب أو أحلام كثيرة، أولها أن تقيم هذه الدولة حكم القانون. وأريد الآن تفصيل المقصود بهذا الحلم، فمن ناحية، يتعين علينا تبين ملامح الهدف قبل السعى إليه. ومن ناحية أخرى، لدينا الوقت للحلم والتأمل، فما أحسبنا ساعين لتحقيق هدفنا اليوم.

حلم دولة القانون يتضمن سبعة جوانب أساسية:

أولها هو قبول الناس عملية إصدار القوانين، واقتناعهم بسلامة هذه العملية وتجردها من الأهواء والمصالح الشخصية أو الفئوية، سياسية كانت أو غير ذلك. ولا يأتى هذا القبول من مجرد انتخاب مجلس للنواب لديه سلطة التشريع، بل من احترام هذا المجلس نفسه أو أى مشرع كان، للمزاج العام للشعب بأغلبيته وأقليته، والحرص على إيجاد حد أدنى من التوافق قبل التشريع. أما التشريع بالقوة- أى رغم علم المشرع بوجود اعتراضات قوية فى المجتمع على مشروع القانون- فيؤدى لهز مكانة القانون فى صدور الناس وشعورهم بأن القانون أداة قمعية فى يد الممسك بزمام السلطة، حتى لو كان هذا المشرع أغلبية فى برلمان منتخب. ومن هنا يبدأ الناس فى التحايل على القانون أو تجاهله أو التمرد عليه. بمعنى آخر: كى يستقر فى صدور الناس احترام القانون يجب أن تقنعهم بأنه أداة لتنظيم حياتهم ومصالحهم، لا أداة قمع فى يد سلطة غاشمة أو حيلة ارتزاق من جانب مجموعة تعيش على حسابهم.

ثانى هذه الأسس أن تحمى القوانين الصادرة الحقوق الأساسية للناس وأمنهم بمعناه الواسع، وأن تطبق على الجميع بنفس الطريقة. فمهما بذلت الدولة من جهد للشرح أو الدعاية، لا يمكن لقانون يهدر حق الناس أو أمنهم أن يحظى باحترامهم. يمكن للناس الالتزام بالقانون الظالم لهم، خوفاً من مغبة تحديه أو حتى انتقاده، لكنهم سيرونه ظلما، وينتهزون أى فرصة للتحايل أو الانقلاب عليه. ونفس الشىء ينطبق على القانون العادل أن تم تطبيقه بشكل ظالم، فإن سرق الشريف، ولم يطبق عليه الحد فلا تنتظر من الناس أن ترى تطبيقه على السارق الضعيف عدلاً. كى يكون القانون قانونا فى عرف الناس، يجب أن يقتنعوا بأنه «لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطع محمد يدها».

ثالث هذه الأسس أن تحترم الدولة ومؤسساتها القوانين، وأن تخضع للعقاب حين تخرق القانون، وأن يتم ذلك بشكل روتينى، فلا يشعر الناس بأنه استثناء أو إهانة للدولة، بل العكس تماما، إن هذا التطبيق إعلاء لهيبة الدولة ولتمسكها بالقانون، وإن خرق مؤسسة الدولة للقانون هو الاستثناء الذى يخضع للتقويم. حين يقع مواطن عادى ضحية لتجاوز من جانب إحدى مؤسسات الدولة فيلجأ للقانون، فينصفه، ويرد له حقه، سيشعر الجميع بأنهم يعيشون فى كنف دولة القانون.

رابع هذه الأسس أن يتم تطبيق القانون فى وقت معقول يسعف الضحية، ويمنع المذنب عن الاستمرار فى جرمه أو الاستفادة منه. فتأخير العدالة عن وقته المناسب يدفع الضحية للجوء لوسائل أخرى، بحثا عن حقه المهضوم. وهذا، ببساطة، يعنى سقوط قيمة القانون وإعلاء قيمة «المساعدة الذاتية»، سواء كانت هذه المساعدة لجوءا للقوة، أو لأصحاب نفوذ يسعفونه، أو غير ذلك. ومرة أخرى، مهما بررت الدولة تأخر العدالة بقلة الموارد وتكدس المحاكم وغير هذا، فإن تأخر العدالة يعنى أمرا واحدا للمواطن، وهو أنه لا يستطيع الاعتماد على القانون.

خامس هذه الأسس أن تكون لسلطات الحكومة حدود مفهومة ومعروفة توضحها القوانين، بحيث يظل الأصل فى الأشياء الإباحة والحرية، ويكون التقييد والتحريم هو الاستثناء. فلا تتصور الحكومة أنها هى الدولة، ولا يعتقد الناس أنهم رعايا يعيشون على هبات الحكومة وعطاياها، بل يسود اعتقاد لدى الجميع، حكومة ومجتمعا، أن الحكومة هيئة تدير مؤسسات الدولة، لكن المالك الحقيقى لها هو الناس، الأفراد، وهم أصحاب الحق الأصيل. ومن ثم تركز القوانين على تقييد سلطات الحكومة وإطلاق وتنظيم حريات المواطنين، الأصل فى الدولة وأصحابها.

سادس هذه الأسس هو مكافحة القوانين للفساد، لا تقنينها له. فالفساد داء ملازم للدولة منذ نشأتها، ولأنه كالبرد والصداع، لا يمكن القضاء عليه تماما، فمن الضرورى لدولة القانون أن تزيد مناعتها ضد الفساد بقوانين تستهدف منابعه ومجراه وروافده.

وأخيرا، الأساس السابع لدولة القانون أن تكون حكومتها مفتوحة لمشاركة مواطنيها، سواء بالانضمام إليها من خلال الانتخابات أو الالتحاق بالوظائف العامة، دون تمييز رسمى أو فعلى، أو من خلال المشاركة فى عملها والاطلاع عليه، وأن يحمى القانون ذلك كله.

يقول قارئ إن هذا حلم بعيد المنال، وأقول له قولا خالد الذكر: «يا سيدى.. سيبهم يحلموا».

نشر في المصري اليوم بتاريخ ١٤ ديسمبر ٢٠١٣