المريض الانجليزي

نشر فى : الأحد 6 سبتمبر 2009 – 9:00 ص | الشروق

 كل من كتب الله عليه العلاج فى لندن يعرف قيمة الممرضين والممرضات الإنجليز: دقتهم، خبرتهم الطبية، معرفتهم بحدودهم وحدود الأطباء والفنيين والمرضى، وحرصهم على عدم تجاوز أحد لحدوده بما يحفظ سلامة الخدمة الطبية ككل. طاقم التمريض هذا من أهم العوامل التى خلقت السمعة الطبية لبريطانيا والتى تجتذب المرضى، وأموالهم، من جميع أنحاء العالم. وإذا بحثت ستجد أن هذا هو الوضع فى كل البلاد التى تقدم خدمة طبية مميزة، فالخدمة الطبية لا تقوم فقط على مهارة الأطباء، وإنما أيضا على جودة التمريض والمعامل والنظام الإدارى الذى يلحم كل ذلك.

التمريض الإنجليزى ليس فيزياء نووية يصعب استيعابها ومحاكاتها، وكذلك بقية مجالات التعليم الفنى. الاستثمار فى التعليم الفنى وإصلاحه أمر أساسى لرفع مستوى الأداء فى جميع الخدمات والقطاعات الاقتصادية. كما أن إنشاء معاهد متقدمة قادرة على تخريج كوادر فنية ذات مستوى رفيع يمكن أن يستوعب معظم الشباب طالبى التعليم العالى وطالبى الوظائف. وإذا بقينا مع مثال التمريض، فإن تخريج طواقم تمريض من الطراز الأول سيحل مشكلة رئيسية فى الخدمة الطبية فى مصر ويرفع مستوى الصحة العامة، وينقذ حياة العديد منا دون مبالغة، ويقلل إهدار مواردنا فى مجال الصحة والعلاج. كما أن إيجاد هذه الكوادر يخلق فرصا جديدة للعمل خارج مصر لمن يرغب، حيث إن التمريض من المهن القليلة التى لا يزال عليها طلب مرتفع سواء فى الدول العربية أو فى كثير من الدول الغربية التى أغلقت أبوابها أمام العمالة الأجنبية.

ما ينطبق على التمريض والخدمات الطبية ينطبق على الأعمال الفنية فى بقية الخدمات، من السياحة إلى المعلومات إلى البنوك (وبالطبع على القطاعات الاقتصادية الأكثر تقليدية ــ الزراعة والصناعة). ففى كل هذه القطاعات، يُدفع الشباب لممارسة مهن اعتباطا، دون تدريب كافٍ أو معرفة مسبقة، بعد أن يكون معظمهم قد أهدر سنوات طويلة من عمره فى جامعات لم يتعلم فيها الكثير. قل لى: كيف يصبح المرء مصورا تليفزيونيا، أو فنى صوت، أو موظف استقبال فى فندق، أو منظم رحلات سياحية، أو مبرمج كمبيوتر، أو فنى فى معمل، أو سائق قطار أو شاحنة أو على المراكب الكبيرة فى النيل؟ كيف يصبح المرء سباكا، أو كهربائيا، أو ميكانيكى سيارات؟ كيف تصبح نادلا أو طاهيا فى مطعم؟ القائمة طويلة من المهن التى لا يوجد تأهيل فنى كاف لها، والتى يؤديها أصحابها اعتباطا أو فهلوة أو بعد شبه تدريب تلقوه فى شبه معهد أو مدرسة.

يمكننا أن نعدل هذا الاعوجاج. ولا يتطلب الأمر عبقرية خاصة كى نفهم أن التعليم الفنى المضبوط يشكل انقاذا لشبابنا العاطل، وإنقاذا لقدرتنا على المنافسة فى سوق العمل العربية والدولية، وإنقاذا لقدرة اقتصادنا على المنافسة مع المنتجين الآسيويين.

وقبل كل ذلك إنقاذا لمستوى معيشتنا المتدهور بحيث يصبح لدينا مهنيون حقيقيون يمكن أن تأتمنهم على نفسك وأولادك وممتلكاتك: ممرض يذكِّر الطبيب أن يخرج الفوطة من معدتك، ممرضة لا تترك أمك تموت من تلوث جروحها، كهربائى لا يترك كابل الكهرباء معلقا على الحظ ليقع على رأس ابنك، فنى غاز يعرف أن الغاز يشتعل إن تسرب وقد يفجر المنزل، فنى صيانة طائرات يعرف أن الركاب لن يمكنهم الخروج من الطائرة إن توقفت محركاتها فى الجو، موظف استعلامات يعرف مخارج الألفاظ وتفهم ما يقوله على التليفون، فنى كمبيوتر لا يحدق فى شاشة الكمبيوتر على أمل أن يختفى العطل من تلقاء نفسه، نادل لا ممتعض ولا يستظرف، سباك معه أدوات، سائق نقل يعرف أننا نقود على اليمين وليس على اليسار، مصمم ديكور يعرف يرسم، وعشرات من المهن التى تقابل أصحابها يوميا وتتمنى لو أنهم كانوا فعلا قد تعلموها.

عندما نقرر أن نصلح حال التعليم، علينا أن نركز كثيرا على التعليم الفنى، بحيث يقوم بدوره الغائب. من ناحية يعتدل هرم التعليم العالى المقلوب، ومن ناحية أخرى نستعيد بعضا من أدائنا فى هذه المهن التى أصبحنا نقوم بها بالبركة، ونرفع من مستوى معيشتنا ونحافظ على ما بقى من سلامتنا الجسدية والعصبية، ونوجد للملايين من الشباب فرص عمل حقيقية وليست فرصا من الورق سواء هنا فى مصر أو فى سوق العمل الخارجى.

هذا ما يفعله الممرض الانجليزى لنفسه ولمجتمعه، أما المريض الإنجليزى فهو يرقد من أول الفيلم داخل جلده المحترق منتظرا أن يموت، وكل همه أن يحكى حكايته المأساوية كى تتعاطف معه جولييت بينوش الجميلة، وهو ما يحدث، لكنه طبعا يموت بنهاية الفيلم، وتذهب جولييت لغيره.