كلام غير واقعي

نشر فى : الأحد 23 أغسطس 2009 – 8:58 ص | الشروق

 قال محدثى إن ماذكرته عن رفع مستوى التعليم العام وجعله القاطرة التى تشد المجتمع للأمام هو هدف نبيل ولكنه غير واقعى، وذلك لأنه يفترض أن الدولة راغبة فى ذلك وقادرة على تنفيذه، وهو افتراض خاطئ. فلو كانت راغبة أو قادرة لفعلت ذلك من نفسها ولما تركت أمر التعليم يصل لما وصل إليه. وبالتالى، والكلام لا يزال لمحدثى، فلا معنى لأن نلقى بالكرة مرة أخرى فى ملعب الدولة، بل يجب أن نفكر فيما يمكن أن نفعله نحن الأفراد ومؤسسات المجتمع لإصلاح التعليم ونترك الدولة فى حالها.

سألت: ولكن ماذا يمكن أن يفعل الأفراد ومؤسسات المجتمع؟ فقال محدثى: يمكن أن ننشئ مدرسة متميزة، فى مستوى كبريات المدارس الأجنبية القائمة فى مصر، يكون القبول فيها على أساس التفوق الدراسى والذهنى، وتكون الدراسة فيها مجانية بحيث تكون أداة لخلق صفوة متميزة عقليا وعلميا وذات جذور ممتدة فى جميع فئات المجتمع. يمكن أن ننشئ ــ بمبادرة خاصة ــ جامعة أهلية لا تهدف للربح، مثلما هو حال الجامعات الكبرى فى العالم، وذكرنى محدثى بالتجارب المشابهة فى تاريخ مصر، وأبرزها جامعة القاهرة التى ولدت من فكرة مشابهة.

وأقول لا، ليس هذا حلا. فمع تقديرى لأهمية دور المجتمع والأفراد، إلا أن هناك أمورا لا تستقيم إلا من خلال الدولة، مثل القانون، والضرائب، والأمن، والصحة. لا يمكن لمبادرات المجتمع أن تنظم المرور، أو أن تحمى الصحة العامة من إنفلونزا الحيوانات الأليفة بأنواعها. بالتأكيد فإن دور المجتمع حيوى لنجاح أى مبادرة أو مشروع إصلاح من قبل الدولة فى أى من هذه المجالات، حتى فى مجال الأمن، لكن إصلاح أى من هذه المجالات لا يمكن أن يتم إلا إذا كان مخططا بشكل شامل ومن خلال الدولة. فغاية ما يمكن لمدرسة أو جامعة متميزة أن تحققه هو تعليم وتخريج بعض المتفوقين والمتنورين، يتفضلوا وينضموا إلى المعمعة التى نهيم فيها، لكن ذلك لا يصلح حال التعليم، وبالتأكيد لا يصلح حال أمة تغرق الأغلبية منها فى غياهب الجب شيئا فشيئا.

الذى يصلح التعليم هو خطة تشمل الجوانب المختلفة للعملية التعليمية: المناهج الدراسية والفلسفة الكامنة وراءها، المدرسون بأوضاعهم المالية والإدارية وبتأهيلهم المهنى والثقافى، والمدارس بأعدادها وتجهيزاتها ومبانيها، وتمويل العملية التعليمية، والإشراف على التعليم ودور الأهالى فى اتخاذ القرار، وعلاقة التعليم الأساسى بالتعليم الفنى والجامعى، وبسوق العمل وبقية المناحى الاجتماعية المتصلة بالتعليم.

وبديهى أن تخطيط إصلاح من هذا النوع لا يمكن أن يضطلع به شخص واحد أو جهة واحدة، وإنما يحتاج لعمل فرق مختلفة تعمل فى كل هذه التخصصات تحت قيادة فريق آخر لديه رؤية شاملة لهذه الجوانب ولكيفية إدماجها فى بعضها. مثل هذا التخطيط هو بالضرورة بعيد المدى، فإصلاح التعليم سيستغرق سنوات طويلة. لكن يجب أن يكون الهدف الذى نسعى إليه واضحا، ثم نبحث كيف يمكن أن نصل إليه عمليا ومتى: ماذا نفعل فى الخمس سنوات المقبلة، وفى الخمس التالية، وهكذا حتى نقترب من الهدف.

توضيح الهدف هو وظيفتنا نحن، أفرادا المجتمع ومؤسساته. وهذه هى النقطة الأولى التى أدعو إليها: أن نجتمع على هدف رفع مستوى التعليم العام المجانى بحيث يصبح مقصد الأكثر تفوقا وطموحا وأن يوفر أساسا مشتركا لأبنائنا وبناتنا من الثقافة والتربية والعلم وينتشل المجتمع من خطر التفسخ وضياع الهوية والاستقطاب الحاد بين أبنائه وفئاته.

أما السعى للوصول لهذا الهدف فلا يمكن إلا أن يكون مسئولية الدولة، وهى لن تقدم على ذلك مالم ندفعها إليه دفعا، ونطالبها به بوضوح كاف وبصوت واضح. الدولة ليست كائنا غريبا يعيش فى الفضاء ويزورنا فى الإجازات، بل هى مقيمة بيننا، ومن ثم فدعوتى الثانية هى أن نقول للدولة صباح مساء: نريد أن نرى خطة متكاملة لإنقاذ التعليم العام المجانى وإعادته للصدارة، ونريد أن تكون هذه الخطة متكاملة وشاملة وجديدة وليست ترميما لهياكل منهارة، وأن يشمل التخطيط جدولا زمنيا للتنفيذ، ونريد أن تكون مؤسسات المجتمع جزءا من عملية التخطيط هذه وأن تكون المشاركة مفتوحة لأن التعليم يخص كل ذكر وأنثى فى هذا البلد.

سيقول محدثى مرة أخرى أن كلامى غير واقعى، لكنى أتساءل: إن اجتمعت مؤسسات المجتمع على رؤية واضحة لشكل نظام التعليم الذى تريده، وطالبت الدولة بالتخطيط لتحقيقه، وتابعت ماتفعله الدولة فى هذا المجال بإصرار يصل حد التلامة ــ إن فعلت قوى المجتمع ذلك، هل تستطيع الدولة التقاعس حتى إن أرادت؟