أول الخط

نشر فى : السبت 15 أغسطس 2009 – 6:45 م | الشروق

 أغلبية تعليقات القراء ذهبت إلى أن التعليم المجانى مصيبة يجب تجنبها، وسأل أحد القراء عما إذا كنت ــ أنا الذى أدافع عن هذه المجانية ــ قد أدخلت أولادى مدرسة عامة أم خاصة. وأجيب: خاصة طبعا، وأكثر من ذلك، مدرسة أجنبية لا علاقة لها من قريب أو بعيد بوزارة التعليم أو مناهجها أو مدرسيها أو شهاداتها. لماذا؟ لأن التعليم المصرى ــ مجانى وخاص ــ وصل لحالة يحسن معها تجنبه إن استطعت لذلك سبيلا. لكن هل هذه حالة أنا سعيد بها؟ قطعا لا، كنت أحب أن يذهب ابنى لمدرسة عامة مثلما ذهبت، وأن تدرس ابنتى بجامعة القاهرة مثلما درست. ولكن إن كان الاختيار بين كثير من الجهل وبين بعض الغربة فأنا مثل كل الناس سأختار بعض الغربة، وهذا خيار ثقيل على النفس لا يجب أن نكون مضطرين له.

لا أحد يريد أن يرسل أولاده للمدارس العامة فى حالتها الراهنة. لا أحد يريد لأولاده تعليما يمسح شخصيتهم ويظلم عقولهم ويعطل فيهم ملكات التفكير الحر المستقل النقدى. لا أحد يريد لنفسه أو لمن يحب الضرر. ولا أحد ينكر أن مستوى التعليم العام قد تدهور بشدة خلال العقود الماضية ووصل إلى نهاية الخط. تدهور التعليم المجانى ليس محل سؤال أو شك. السؤال هو ما العمل؟ أين نذهب من هنا ــ ليس كآباء وأمهات، فكلنا نحاول أن نفعل ما نستطيع لحماية أبنائنا: ندخلهم مدارس أجنبية إن استطعنا، أو مدارس حكومية مع محاولة تعويضها بدروس خاصة قدر ما نستطيع، أو ندخلهم مدارس حكومية وندعو لهم بالسلامة والستر. الأهالى تفعل مافى وسعها كل يوم. السؤال الذى أطرحه هنا هو ماذا نفعل ــ كمجتمع ــ غدا، وبعد غد، والسنة القادمة وما بعدها؟ هل نقول وداعا للتعليم المجانى ونركز على التعليم الخاص؟ أم نمول التعليم المجانى ونصلح مناهجه ونرفع مستواه كى يصبح هو الأقوى والأفضل؟ منذ ثلاثين عاما فقط كان التعليم العام هو الأفضل. يلتحق به الطلبة الأكثر تفوقا، فى حين يبحث من لم تؤهله درجاته عن مدرسة خاصة تقبله. كانت جامعة القاهرة وقريناتها هى الأم التى نسعى للانتماء لها، ومن لم تؤهله درجاته هو الذى يبحث عن جامعة خاصة (فى دول مجاورة لمصر). كان التعليم العام ــ مدرسة وجامعة ــ بوتقة تجمع أبناء المجتمع من مختلف الشرائح والطبقات والجهات، تعرفنا على بقية أشكال الناس التى لا نلقاها فى دائرة معارفنا الصغيرة، وتعلمنا كيف نتعامل مع بعضنا فى تشابهنا وفى اختلافنا، وتمنحنا فرصا متقاربة وشريفة للتنافس والسعى والترقى فى بحثنا عن مستقبلنا. لم تكن الفرص متساوية فى يوم من الأيام، فليس الغنى كالفقير، ولا ابن المهم كابن السبيل. لكن التعليم العام كان يداوى بعض خطايا المجتمع، ويعالج بعض آثار التفاوت فيه، وينشر ثقافة عريضة بين الغالبية ترفع المستوى العام للشعب وذوقه ومعرفته ودرجة تحضره.

ولم نكن وحدنا فى ذلك. فليس هناك مجتمع قوى فى العالم كله يعتمد على التعليم الخاص، بل إن معظم هذه المجتمعات مدت مجانية التعليم إلى الجامعة ــ مثل فرنسا وألمانيا. وتلك التى لم تفعل، مثل أمريكا، تعانى تبعات ذلك وتسعى لزيادة فرص غير القادرين فى الالتحاق بالجامعات من خلال إجراءات تعويضية كالمنح والقروض الدراسية والإعفاءات الضريبية.

التعليم، المدرسى والجامعى، هو العصب الرئيسى للمجتمع ومصدر الحيوية فيه. ومن غير المعقول التردد فى الإنفاق عليه، فلا يتعللن أحد بالتكلفة. وليذكر الجميع أنه ليس هناك شىء مجانى: لا غداء ولا عشاء ولا تعليم ولا مواصلات. كل شىء يتكلف. التعليم العام يتم تمويله إما من جيوب الأهالى مباشرة أو من الموارد العامة والضرائب (التى يتم تحصيلها من جميع الشرائح ــ بل أحيانا يؤدى الهيكل الضريبى لجمع ضرائب أكثر من الشرائح الأقل دخلا). تقليص الإنفاق على التعليم العام والاعتماد على التعليم الخاص ليس مسألة توفير، وإنما مسألة تتعلق بنوع المجتمع الذى نريد أن نكونه، لأنه يعنى فى حقية الأمر قصر فرص التعليم على القادرين ماليا، فى حين يتم إنفاق المال العام (الذى هو ملك القادر وغير القادر) على أمور أخرى.

ليس دفاعى عن مجانية التعليم بحنين إلى الماضى، لكنه حنين إلى مستقبل فى متناول أيدينا. إصلاح التعليم العام ممكن. إعادته لمكانه الطبيعى ممكن. تحويل التعليم العام إلى قطب يعيد تجميع أوصال المجتمع المفككة ممكن. جعل التعليم العام قاطرة تشد المجتمع كله إلى الأمام ممكن. التعليم العام هو منبت الثقافة العامة، والذوق العام، والمشروع العام. إصلاح التعليم العام هو أول الخط الجديد، بداية عودتنا لأن نكون مجتمعا مرة أخرى، وليس مجموعات من الناس ساكنة جنب بعض، وتريد كلها أن تفر من هنا.