العبارة

نشر فى : الأحد 30 أغسطس 2009 – 8:44 ص | الشروق

 هناك فرق كبير بين أن يكون التعليم الجامعى بالمجان، وأن يكون متاحا للجميع. إغراق الجامعة بأعداد لا تقوى على تعليمها هو المسئول الأول عن تدهور التعليم الجامعى، ليس المجانية. ولو فتحت الجامعات الأمريكية باب القبول على مصراعيه لكل من يرغب دون التقيد بمستوى الطلبة الدراسى وبالعدد الذى تستطيع الجامعة تعليمه لأنهار التعليم بهذه الجامعات أيضا.

المشكلة إذا ليست فى مجانية الجامعة، وإنما فى فتح بابها أمام أعداد تفوق قدرتها. وهذا خطأ الدولة ولا شك، وهو خطأ قديم ومتراكم. فقد رفعت الدولة الطلب على التعليم الجامعى حين اتبعت سياسات وضعت خريج الجامعة على قمة الهرم الاجتماعى (من التوظيف وحتى التجنيد)، وحين أهملت التعليم الفنى وشجعت ثقافة ترفع من شأن الجامعيين وتحط من شأن الآخرين.

وفى الوقت الذى رفعت فيه سياسات الدولة الطلب على التعليم الجامعى، لم تواكب ذلك باستثمار فى مؤسسات التعليم بحيث توجد «فرص تعليمية» حقيقية. وإنما ألقت داخلها بالأعداد المتزايدة الراغبة فى التعليم الجامعى بغض النظر عن جودة التعليم الذى يتلقونه وعن أثر ذلك على حال الجامعات. وهكذا حولت الجامعة لجهاز فى الدولة يمنح الشباب شهادة قبول اجتماعى وليس شهادة بخبرة ما تلقوها أو مهنة تعلموها. أى أنها فعلت بالتعليم مافعلته بالتوظيف: هناك بطالة مقنعة بشبه وظائف وأجر رمزى، وهنا جهل مقنع بشبه تعليم وشهادة رمزية.

وبالطبع أدى ذلك لكارثة. فالعبّارة التى تبلغ حمولتها مائة فرد لا يمكن أن تضع فيها خمسمائة، وإلا غرقت بهم (سواء دفعوا أو ركبوا بالمجان). ولا يمكنك التحجج بأن هناك آلافا على الشاطئ ينتظرون العبور، ابنى لهم عبارات أخرى، وإن كانت تكلفة العبارات تفوق قدرتك فشجعهم على العبور لشواطئ أقرب ويمكن الوصول إليها بالمراكب الشراعية والقوارب ذات المجاديف، وذلك أفضل من أن تلقى بهم فى عبارات مصيرها الغرق.

وفى مواجهة الكارثة لجأنا مرة أخرى «لحل» جزئى سريع وسهل بدلا من التخطيط الواقعى الذى يعالج جذور المشكلة وتعقيداتها، فخصخصنا التعليم الجامعى جزئيا مع إبقاء الجامعات العامة ترزح تحت وطأة الدور التعيس الذى فرض عليها. هذا «الحل» سيفرز مجتمعا منقسما بين أقلية تملك ثمن تعليم (خاص) جيد يؤهلها للاستئثار بالوظائف الأفضل، وأغلبية تحصل على شهادات رمزية لا تؤهلها إلا لأن تظل فقيرة وجاهلة ومهمشة، وهذا فى أفضل الأحوال.

لكن فى أغلب الظن ستكون النتيجة أسوأ: فيفرز هذا «الحل» مجتمعا منقسما بين أقلية جاهلة تشترى الشهادات بفلوسها دون مجهود ولا تتعلم شيئا ذا قيمة، وأغلبية تحصل على شهادات بالمجان ولا تتعلم شيئا ذا قيمة، بحيث يغرق الجميع فى بحر الجهل والتهميش فى عالم تتنافس فيه الدول لتمكين أبنائها من احتلال أماكن الصدارة فى اقتصاده وثقافته وإدارته. عالم يعمل بجد ولم يعد لديه وقت للكلام الفارغ والترقيع وأشباه الحلول.

لو نظرنا للمجتمعات التى تفوقت علينا علميا لوجدنا أن جامعاتها لا تهدف للربح سواء كان مصدر تمويلها الدولة أو الأفراد. إن حققت جامعة فائضا استخدمته فى تطوير برامجها والتوسع فى المنح الدراسية للمتفوقين، وإن حققت عجزا طرقت الأبواب لتغطيته أو قلصت من برامجها حتى تعبر الأيام الصعبة. وهذه الجامعات مستقلة فى إدارتها وشئونها عن الدولة، وإن كانت تخضع لمعايير متفق عليها بين مجالس واتحادات الجامعات.

هذه الجامعات لا تقبل سوى من يؤهله مستواه الدراسى للالتحاق بها فى حين تذهب الأغلبية للتعليم الفنى والمتخصص. وحتى الجامعات ذات المصروفات تسعى لاجتذاب المتفوقين من خلال إعفائهم من المصروفات ومنحهم مكافآت ووظائف للإنفاق على أنفسهم خلال مرحلة التعليم. وكلما ارتفع مستوى الجامعة وسمعتها كلما تشددت فى اختيار من يلتحق بها وكلما سعت لاجتذاب المتفوقين إليها.

هناك إذا طريق آخر غير الغرق فى العبارات التى تحمل أضعاف حمولتها وغير النوم على الشاطئ.

هذا الطريق يشمل إعادة بناء العبارات المتهالكة لتحمل الشباب القادر على الوصول للشواطئ البعيدة، وتأهيل الشواطئ القريبة لاستقبال العدد الأكبر من الشباب وتجهيز مراكب صغيرة تحملهم إليها. هذا الطريق يشمل تحديد أعداد المقبولين فى الجامعات العامة وفقا لقدرة كل جامعة على التعليم بجد، على أن تكون الأولوية للأكثر تفوقا وليس الأقدر ماليا، وإعادة بناء وتأهيل هذه الجامعات التى تشكل مقياس العلم والثقافة فى المجتمع ومعها مؤسسات التعليم الفنى والمتخصص والذى يستوعب الأعداد الأكبر من الشباب فى العالم كله ويشكل عماد سوق العمل والاقتصاد.

ليس هذا بمستحيل، ولكنه لن يحدث من تلقاء نفسه، بل إذا التقط المجتمع الخيط وضغط على الدولة كى تتحرك فى هذا الاتجاه. ولكن لا داع للضيق أو الانزعاج، فيمكننا دائما أن نستمر فى الشكوى من سوء الحال وتفسيره بأسباب تعفينا من التفكير ومن التحرك ومن المسئولية. ونواصل إرسال أبنائنا على العبارات المتهالكة ونحن ندعو لهم بالسلامة، وإن غرقوا ندعو على من كان السبب ونعاود الاستلقاء على الشاطئ.