إشاعة مصرية

نشر فى : السبت 20 يونيو 2009 – 6:58 م |الشروق

لم تكن مصر فى يوم من الأيام قائدة العالم العربى. هذه هى الإشاعة التى أطلقها الإعلام الموجه فى الستينيات وصدقها الرأى العام لأنه لم يكن هناك من مصدر آخر للمعلومات، ثم توارثناها كحقيقة لا تقبل التشكيك، والآن ننعى غياب هذا الدور، الذى لم يكن فى يوم من الأيام حقيقيا. الحقيقى أن العالم العربى لم يكن له فى يوم من الأيام قيادة، وإنما تنازع عدد من الدول على قيادته دون أن تفلح واحدة منها فى تحقيق ذلك. فمنذ نشأة النظام العربى الحالى وكل من مصر والسعودية والأردن وسوريا، وأحيانا العراق تتنازع على قيادته أو على الأقل منع أى من «أشقائها» من قيادته بشكل منفرد. ومن يتابع تطور العلاقات العربية منذ هذا الوقت وحتى الآن يدرك بوضوح كيف أن هذا التنافس على القيادة، وعلى منع الآخرين من الانفراد بالقيادة كان عنصرا أساسيا فى تحديد علاقات الدول العربية بعضها ببعض.

هذا هو السر الذى يعرفه كل من له علاقة بتاريخ النظام العربى، ولا يكاد يتحدث عنه أحد.

وللتوضيح، فإن القيادة بين الدول لا تشمل قيام الرئيس عبدالناصر بتحريك الشعوب العربية ضد حكوماتها، ولا قيام صدام حسين بإرهاب جيرانه. قيادة دولة للنظام العربى كما عرفته فى الأسبوع الماضى يعنى قيام دولة بتحريك بقية الدول وحشد جهودها وتنسيقها لتحقيق أهداف مشتركة، والأنفاق من مواردها الخاصة وتحمل مخاطر سياسية فى سبيل ذلك أحيانا على حساب مصلحتها الخاصة، وهى فى ذلك كله تتبع رؤية واضحة لكيفية حماية المصالح المشتركة تقنع بها الأغلبية، دون أن تهدد مصالح أى من الدول الأخرى التى تقودها. بهذا المعنى، لم يحدث أن دولة عربية واحدة أفلحت فى قيادة النظام العربى منذ إنشائه.

حتى فى أحلك لحظات هذا النظام، عندما كان أمنه أو مقدساته عرضة للخطر، لم ترضى الدول الرئيسية فيه بالانقياد لأى من راغبى القيادة، ولم يفلح أى من المتنافسين على القيادة فى إقناع الآخرين بأنه يسعى للصالح العام، وأن الرؤية التى يطرحها هى الأفضل وأن قيادته لا تؤثر على وضع الآخرين. حتى فى حرب 1948، بينما كانت فلسطين تضيع، كان سلوك الدول العربية مع بعضها محكوما برغبتها عدم السماح لأى من منافسيها بتحقيق نجاحات منفردة تكفل لها الخروج من الحرب فى وضع يمكنها من قيادة النظام العربى. وفى بعض الأحيان وصل هذا الهاجس لحد ترك الشقيق يواجه العدو وحده رغم القدرة على المساعدة، بل أحيانا التنسيق مع العدو على حساب الشقيق.

سيعلق أحد القراء فى موقع الجريدة بقوله: «يادكتور: طيب ما إحنا عارفين إن الدول العربية طول عمرها تتبع مصلحتها الذاتية وتخون القضايا العامة فى سبيل ذلك. فما الجديد؟». الحقيقة أن بيت القصيد هو أن عكس هذا هو الصحيح. الدول العربية لا تخون القضايا العامة عندما ترفض الانقياد لمحاولة دولة إملاء سياستها ورؤيتها ومصلحتها على الآخرين، وإنما تتصرف بشكل طبيعى، تتصرف كدول طبيعية. الذى لا يتصرف بشكل طبيعى هو من يتصور أنه يمكنه النجاح فى الانفراد بقيادة النظام العربى. بيت القصيد أنه لا يمكن قيادة دول رغم إرادتها. بيت القصيد أنه ما دام موقف الدول العربية منذ استقلالها هو عدم السماح لأى دولة بالانفراد بالقيادة، فإن الشىء الطبيعى هو أن نكف جميعا عن محاولة الانفراد بالقيادة وأن نبحث عن شكل آخر لتسيير أمورنا المشتركة.

بمعنى آخر، علينا كرأى عام أن نكف عن مطالبة الدولة بقيادة النظام العربى، لأنها فكرة سيئة ومستحيلة فى آن واحد. وبدلا من ذلك، علينا أن نبحث عن شكل آخر لإدارة المصالح والمشكلات العربية المشتركة بما يأخذ مصلحة كل دولة عربية فى الاعتبار. الخطوة الأولى لمعالجة نظرتنا الوهمية للدور المصرى فى المنطقة هى أن نقبل بمبدأ المساواة بين الدول العربية، وشرعية مصالحها كلها حتى تلك التى لا نتفق معها.

إن كانت هناك دولة ترى مصلحتها فى التعاون مع أمريكا، يجب أن نأخذ ذلك فى عين الاعتبار، وإن كانت هناك دولة ترى مصلحتها فى التعاون مع إيران، فيجب أن نأخذ ذلك بعين الاعتبار. وساعتها نطالب بقية الدول العربية بأن تتبنى نفس الأسلوب. كل الدول العربية دول، وكل مصالحها ورؤاها يجب احترامها، وهذه هى الخطوة الأولى لمعالجة الانقسام العربى وأوهام الدور القيادى فى آن واحد.