نتنياهو … وماء البحر

نشر فى : الثلاثاء 16 يونيو 2009 – 7:05 م | الشروق

 تسهل الإشارة للجوانب السلبية فى خطاب نتنياهو الذى طرح فيه رؤيته للسلام بين العرب وإسرائيل. فهو يشترط قبوله لدولة فلسطينية بإقرار العرب «لحق اليهود فى أرض فلسطين»، ونزع سلاح الدولة الفلسطينية الجديدة وحرمانها من تكوين جيش أو السيطرة على مجالها الجوى أو إبرام تحالفات عسكرية، وإخضاعها لنظام مراقبة يحول دون دخول السلاح لها. كما يشترط تنازل الفلسطينيين عن حق اللاجئين فى العودة لأراضيهم التى أصبحت داخل دولة إسرائيل، والتنازل عن القدس بالكامل. ولا يذكر نتنياهو شيئا عن حدود هذه الدولة أو عن إزالة المستوطنات التى تقطع أوصالها، أو عن حقوق الفلسطينيين بصفة عامة. كذلك لا يذكر شيئا عن الانسحاب من الجولان السورى. من ناحية أخرى، يركز نتنياهو على الأشياء التى يفضلها: التطبيع مع العالم العربى، وآفاق التعاون الاقتصادى مع دول الخليج، و«السلام الاقتصادى» مع الفلسطينيين. ولسبب ما اختار نتنياهو إقامة مشروعات تحلية مياه البحر ليضعها فى مقدمة مزايا هذا السلام الاقتصادى. ونهاية يعود نتنياهو إلى نغمة الرئيس الأمريكى السابق بوش فى الحديث عن الأخيار والأشرار فى المنطقة: الخطر الإيرانى، العرب المتطرفة والعرب المعتدلة، وضرورة محاربة حماس الإرهابية، إلخ.

وقد سارع الفلسطينيون برفض الخطاب وما حواه، فوصفته الرئاسة الفلسطينية بأنه ينسف جهود السلام، فى حين وصفته حماس بأنه عنصرى. وانضم الإسرائيليون لهذا الرفض، فوصفه عكيفا الدار ــ أحد كبار المحللين الإسرائيليين بجريدة هاآرتس ــ بأنه «خطاب استعلائى واستعمارى» يخلو من أى تعاطف ويبخس الفلسطينيين حقوقهم ويدفع بالعالم العربى والإسلامى بعيدا عن التصالح مع إسرائيل.

كل هذا صحيح، ولكنه ليس مهما. الكلام المهم، فى تقديرى، هو أثر ما قاله نتنياهو على اللعبة السياسية فى الشرق الأوسط، ومواقف الأطراف الرئيسية الثلاث: العرب، والحكومة الأمريكية، واليمين الحاكم فى إسرائيل.

فأولا، نجح نتنياهو بقبوله لمبدأ الدولة الفلسطينية فى الإطاحة بأحد أهم مصادر الضغط الدولى المتوقع على إسرائيل. الضغط على نتنياهو لقبول حل الدولتين كانت نقطة الضعف الرئيسية للتحالف الحاكم فى إسرائيل، فهى النقطة التى يستطيع فيها الساسة الأوروبيون والأمريكيون ممارسة الضغط على إسرائيل دون أن يتعرضوا لانتقادات داخلية من المتعاطفين مع إسرائيل. بقبول نتنياهو للمبدأ، انتفى هذا الخطر. من ناحية أخرى، قبل نتنياهو بمبدأ تجميد الاستيطان (مع استثناء «النمو الطبيعى» للمستوطنين)، بما يصعب على أوباما وغيره الضغط عليه فى هذه النقطة أيضا. إذ إن حجة النمو الطبيعى تبدو إنسانية؛ فمن يستطيع منع اليهود الشباب من الزواج والإنجاب؟.. وهل كونهم مستوطنين يحرمهم من هذا الحق؟ هذه هى بعض الحجج التى سنسمعها فى الأسابيع المقبلة، وسيغرق اليمين الإسرائيلى أمريكا والعالم فى تفصيلات غير مفهومة للعامة، كالفارق بين النقاط الاستيطانية العشوائية والقانونية، وحدود المستوطنات القائمة وتلك الداخلة فى التخطيط العمرانى، والفارق بين البناء الذى يتم وفقا لعطاءات رست على شركات وبين العطاءات الجديدة. ويمكن للحكومة اليمينية فى إسرائيل إضاعة الموضوع الأصلى فى هذه التفاصيل وتخفيف حدة الضغط من جانب واشنطن فى هذا المجال.

ثانيا، ينقل نتنياهو الكرة إلى الملعب العربى. فالمطلوب الآن هو اعترافنا بأن فلسطين لم تكن للفلسطينيين وإنما للشعب اليهودى. أى أن نقبل فى آن واحد بالفكرة الصهيونية وبأن الشعب الفلسطينى زائر فى هذه الأرض، ونعفى إسرائيل من مسئوليتها عن مأساة الشعب الفلسطينى ونلحق الضرر بحقوق العرب داخل إسرائيل نتنازل فوق البيعة عن حقوق اللاجئين. المأساوى فى الأمر أن إدارة أوباما قبلت بمبدأ يهودية إسرائيل، وهو ماقاله أوباما شخصيا فى خطابه بجامعة القاهرة، وكرره بعدها مبعوثه ميتشل. وستجد من الأوروبيين من يتبعهم، ويصبح أمام العرب اختياران: إما قبول هذا الشرط التعجيزى، وهو مالا أتصوره، أو رفضه وتحمل مسئولية تعثر التسوية السلمية، فينتقل الضغط الدولى علينا نحن ويخرج اليمين الإسرائيلى منتصرا.

أما الأثر الثالث للخطاب، وربما يكون العنصر الوحيد الإيجابى، فهو سحب اليمين الإسرائيلى الأكثر تطرفا إلى الإقرار بأن الفلسطينيين شعب له الحق فى الحرية والحق فى إقامة دولة والعيش كجار لإسرائيل وليس تحت احتلالها. سحب اليمين إلى ذلك هو ثورة بكل المعايير، حتى وإن لم يلحظ اليمين نفسه هذا الأمر بعد. فهؤلاء هم آخر المعارضين لوجود شعب فلسطينى، وحتى وإن كان نتنياهو قد غلف الأمر فى عباءة توراتية، وصور الفلسطينيين على أنهم «يعيشون فى قلب أرض إسرائيل» فإن الخلاصة هى أنهم موجودون وأنهم شعب له الحق فى الحرية ويجب على الإسرائيليين احترام ذلك. هذا الأمر ينهى الجدل فى إسرائيل حول أرض إسرائيل الكبرى. هذا الإعلان، حتى وإن غلف بالاستعلاء وبالكراهية وبالعنصرية مثلما تقول حماس، هو إعلان نهاية إمكانية تحقيق حلم إسرائيل الكبرى على أرض الواقع. وللتقريب، تخيل لو أن قيادات الجماعات الإسلامية الأكثر تشددا قالت إن الإسرائيليين يعيشون فوق أرض وقف إسلامى لا حق لهم فيها، ولكنهم فى نهاية الأمر شعب يستحق الحرية والاستقلال! هذا هو المقابل لما قاله نتنياهو، ومن المهم متابعة ردود فعل أقطاب اليمين فى إسرائيل على هذه النقطة فى الفترة المقبلة.

باختصار، فإن الساحر السياسى قد عاد إلى العمل. وهو فعلا يريد تحلية مياه البحر، أو إيهامنا بأن ماء البحر حلو ودفعنا لشربه، أو المخاطرة بالموت عطشا. وليست هذه سوى بداية أعماله السحرية، فمازال ملف الأمن لم يفتح بعد، ولم تنطلق صواريخ غزة بعد، ولم يفتعل معركة مع حماس أو مع إيران بعد، ولم يفتح ملف الجندى المخطوف بعد. مازال فى جعبته الكثير.

من ناحيتنا، علينا ألا نرفض تماما ولا نقبل تماما، وإنما أن نجرجر اليمين الإسرائيلى نحو الانغماس أكثر فى فكرة الدولة الفلسطينية، والدفع نحو المزيد من التنازلات حتى وإن كنا سنرفضها فى النهاية، مع الإصرار على الوقف الكامل لأعمال البناء فى المستوطنات دون تفاصيل، وعلى أن رؤيتنا للتسوية تقوم على قبول إسرائيل لمسئوليتها التاريخية عن مأساة الفلسطينيين مع التركيز على النظر للمستقبل، وأن قبولنا لدولة إسرائيل تقوم على مبدأ ديمقراطية هذه الدولة وتساوى الحقوق بين سكانها العرب واليهود. وطبعا لن يؤدى أى من هذا لتسوية بيننا وبين إسرائيل طالما ظل نتنياهو فى الحكم، لكننا نثبت حقوقنا، وننتزع تنازلات، ونرد السحر على الساحر، حتى يرحل.