كيف نتعامل مع القوى غير الديمقراطية؟

من وقت لآخر تتصاعد دعوات لتوحيد الصف بين قوى المعارضة، على أساس أن مصيرنا مشترك تحت القمع، وأن الإطاحة بالاستبداد هي أولى الأولويات، وأن كلنا مصريين وما يجمعنا أكبر مما يفرقنا. وأزعم أن كل هذه الدعوات، وما تستند إليه من حجج، هي محض كلام فارغ. فلا مصيرنا مشترك، ولا الإطاحة بالاستبداد هي أولى الأولويات، ولا مايجمعنا أكبر مما يفرقنا، وكوننا جميعا مصريين لا يعني اكثر من التعايش السلمي بيننا.

ربما كان لنا عذر في الإيمان بهذه الترهات قبل ٢٠١١، حين كنا نظن أن مصيرنا مشترك لأننا كلنا نرزح تحت القمع.  لكن يجب أن نكون قد تعلمنا الدرس، وهو أن بعضنا أقوى من البعض الآخر: الإسلاميون أقوى من الديمقراطيين وأكثر تنظيما وتمويلا ووضوحا في الرؤية. وبالتالي حين ترفع عنا يد القمع لن نكون سواسية ولن يكون مصيرنا مشترك. سيقفز الأقوى منا، أي الإسلاميون، على كرسي الحكم ونجد أنفسنا تحت سيف قمعهم مثلما كنا تحت سيف من سبقهم. وكل ما نستطيعه عندها هو مناشدة العقل والضمير وبعد النظر عندهم، وهي أشياء لا يعتمد عليها لدى الخصوم أبدا، خاصة حين يتمكنون من الحكم.

ربما كان لدينا عذر في الإيمان بهذه الترهات قبل ٢٠١١، حين كنا نظن أن الإطاحة بالاستبداد هو أولى الأولويات، وأنه العقبة الوحيدة التي تقف بيننا وبين الحرية والعدالة الاجتماعية. لكن يجب أن نكون قد تعلمنا أن الإطاحة بالمستبد قد يأتي لنا باستبداد آخر أنكى وأشد، سواء باسم الدين مثلما كان الحال أثناء حكم الإخوان أو باسم الوطنية مثلما هو الحال الآن. وأضيف الى ذلك أن الإطاحة بالاستبداد دون وجود تصور عن كيفية النهوض بشبه الدولة التي نعيش في ظلها سيؤدي لفوضى كارثية تجعل الناس تتوق لأيام الاستبداد ثانية.

ربما كان لنا عذر في الإيمان بهذه الترهات قبل ٢٠١١، حين كنا نظن أن ما يجمعنا أكبر مما يفرقنا لأننا جميعا مصريون. لكن يجب أن نكون قد تعلمنا أن رؤية الإسلاميين لمصر لا تتسع لنا ولا لديمقراطيتنا الليبرالية، سواء كانوا من حملة السلاح أم من الذين يرون أولوية الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة. الاثنان في نهاية الأمر يمتلكان الحقيقة المطلقة، يختلفان في كيفية الوصول اليها، لكن ليس لديهم شك في كون الإسلام دين ودولة. وبالتالي لا مجال لنسبية السياسة، ولا لأولوية حقوق الفرد وحرياته على ماعداها، وبالتالي لا مجال حقيقي للديمقراطية. طالما كنت مقتنعا أن الإسلام دين ودولة، فالديمقراطية لا تعدو أن تكون وسيلة للتمكين من الحكم، بعدها يكون الحكم لله، ويكون دور البشر قاصرا على تنفيذ مشيئته – بالسلاح أو بالموعظة الحسنة، أو بالاثنين معا. وماذا عن أنصار الديمقراطية الليبرالية وحقوق الفرد وحرياته؟ هؤلاء أقلية لا قيمة لها، يحمدوا ربهم إن تركناهم في غيهم يعمهون، لكن عليهم احترام مقدسات الأغلبية، وإلا فالسيف.

ربما كان لنا عذر في الإيمان بهذه الترهات قبل ٢٠١٣، حين كنا نظن أن ما يجمعنا أكبر مما يفرقنا لأننا جميعا مصريون. لكن يجب أن نكون قد تعلمنا أن رؤية العسكريين لمصر لا تتسع لنا ولا لديمقراطيتنا الليبرالية. فهم يؤمنون أن الجيش هو القوة المصرية الوحيدة المنظمة، القادرة، الوطنية، التي لا تحركها مصالح شخصية أو طبقية، وأن النخب المدنية مفتتة وأنانية بطبيعتها، وأن الشعب خانع وضائع نتيجة قرون من الاستعباد، وبالتالي ففتح باب الديمقراطية يعني الفوضى، واستغلال النخبة لجهل الأغلبية وخنوعها من أجل تحقيق مصالحها الشخصية، بل وتحالفها مع القوى الخارجية خدمة لهذه المصالح. ليس هذا كلام الرئيس السيسي، بل كلمات الرئيس عبدالناصر في كتابه “فلسفة الثورة” الصادر عام ١٩٥٤، والذي أبدى فيه الأسى لاضطرار الجيش لتولي زمام الأمور حين اكتشف حال النخبة بعد تدخله “المؤقت” – منذ ٦٥ عاما.

إن كنت مؤمنا بالإخوان، أو معجب برجولتهم وتضحياتهم وصلابتهم وصمودهم، انضم لهم، أو واصل ادعاء أنك “مش اخوان لكن …”.

وإن كنت ترى في الحكم العسكري خلاص مصر ونجاتها من الشرور والمؤامرات، فاستمر فيما أنت فيه.

لكن ان كنت ديمقراطيا، فلا مكان لك مع أي من هاتين المجموعتين.

هل يعني هذا ألا نتحالف مع القوى غير الديمقراطية؟

نعم؛ لا نتحالف مع قوة غير ديمقراطية، إلا حين يكون لدينا القوة التي تضمن تنفيذ تعهدات الخصم الذي نتحالف معه. في غياب هذه القوة التي تضمن التزام الطرف الآخر بتعهداته، لا يكون للتحالف معنى. وفي هذه الحالة فإن دعوات “توحيد القوى” تكون في حقيقتها دعوات للاصطفاف خلف غيرنا، ودعمهم في صراعهم مع الطرف الآخر حتى ينتصر ويأكله ثم يحلي بنا.

التحالف مع الاخوان في ٢٠١١-٢٠١٢ تبين أنه خطأ، لأننا لم يكن لدينا مثل هذه القوة.

والتحالف مع العسكر في ٢٠١٣ تبين أنه خطأ، لأننا لم يكن لدينا مثل هذه القوة. (ملحوظة شخصية لهؤلاء المهتمين بمواقفي: على عكس ما يظن البعض، لم أشارك في بناء هذا التحالف ولم أكن في جبهة الإنقاذ، ولم أكن في مصر كلها في صيف ٢٠١٣. جئت لمصر في زيارة لمدة أسبوع من ١٤-٢١ يوليو ووجدت أن الفأس قد وقعت في الرأس فقلت هذا لأصحاب الشأن وعدت من حيث أتيت. وبعد أغسطس حاولت مع آخرين وقف العسكرة لكن انهيار أنصار الديمقراطية جعل النجاح مستحيلا، فقلت ما رأيته علنا وانسحبت).

التحالف مع أطراف أقوى منا خطأ. الصح – في رأيي – هو التركيز في بناء قوتنا المستقلة، حتى لو كانت محدودة، حتى لو تم ذلك ببطء، ولا ندخل معارك غيرنا – حتى لو أكلوا بعض، ونتفادى القتل والسجن ما استطعنا لهذا سبيلا.

ضرورة التعايش، لا التحالف

لا يعني هذا أن نسعى لقمع القوى غير الديمقراطية. فالإسلاميون والعسكريون شركاؤنا في الوطن، وأهلنا وجيرانا، ومن ثم علينا التعايش سويا. وعلى القوى الديمقراطية واجب خاص في السعي لتحقيق ذلك لأننا أصحاب دعوة حسم الخلافات سلميا. لكن هناك فارق ضخم بين التعايش وبين التحالف.

التحالف هو التنسيق مع طرف آخر وتبني قضايا واستراتيجيات مشتركة والدخول في معارك مشتركة.  

التعايش إقرار بأن الأطراف الأخرى موجودة، ولها حقوق، ولها مصالح، وعلينا الوصول معها إلى حلول وسط تضمن لهم البقاء وحماية مصالحهم الأساسية. غير ذلك معناه الاحتراب.

التعايش عكس الإقصاء، أما التحالف فأمر آخر تماما.

وحتى لو كانت الأطراف الأخرى اقصائية، علينا نحن مواصلة الدفع في اتجاه التعايش السلمي، وحتى لو تمكنا يوما ما من السلطة، وأصبح بمقدورنا قمع هذا الطرف أو ذاك، نقف في منتصف الطريق. ليس كرما منا، ولا لنبل أخلاقنا، بل لأن مصلحتنا تقتضي احتواء الصراعات الاجتماعية وعدم دفعها نحو الحافة ودفع الطرف الآخر للتوحش. الحفاظ على التعايش السلمي وحد أدنى من المصالح الأساسية للجميع يبقي الصراعات السياسية في حدود معقولة بدلا من تحويلها لحرب شاملة. لكن هذا – مرة أخرى – يختلف جذريا عن التحالف.

باختصار: واجبنا الدفع في اتجاه التعايش السلمي مع القوى غير الديمقراطية، لا التحالف معها.

.