هل نهاجم ملك البحرين أم نتأمل فعله

نقلت وكالة الأنباء البحرينية خبرا يفيد بقيام الملك حمد بن عيسى آل خليفة يوم الخميس الماضي بتخفيف عقوبة الإعدام إلى السجن المؤبد بحق أربع مواطنين بحرينيين مدانين بتهمة تشكيل خلية إرهابية، والشروع في اغتيال القائد العام لقوة الدفاع المشير خليفة بن أحمد آل خليفة، وجرائم إرهابية أخرى، وذلك بعد أن أيدت حكم الإعدام “محكمة التمييز العسكرية” – أعلى المحاكم العسكرية البحرينية والتي يعتبر حكمها نهائيا.

حين وجهت رسالة إلى رئيس الجمهورية، منذ عدة أشهر، أطالبه فيها بتعليق تنفيذ أحكام الإعدام، هاجمتني جوقة من الإعلاميين في خمس عشر مقالا وعشر أحاديث تليفزيونية، واصفين إياي بمناصرة الإرهاب، وإنكار القصاص والشريعة، والدعوة لتجاهل القانون وأحكام القضاء والدستور، وإهدار حقوق ومشاعر الضحايا والشهداء وذويهم، إضافة لبعض الاتهامات التافهة حول دوافعي الشخصية من توجيه هذه الرسالة. وتواكب مع هذا الهجوم الإعلامي انتقادات حادة وجهها أحد كبار المسئولين، صحبها تهديد يتنافى ومقتضيات وظيفته، أني “لن أنجو بفعلتي”. فما رأي هؤلاء ياترى في ملك البحرين؟

هل يظنون أن جلالته يناصر الإرهابيين لأنه قرر ألا يلوث يده بدمائهم مكتفيا بدرء خطرهم عن المجتمع بعقوبة السجن؟

هل يرون أن جلالته ينكر القصاص وأحكام الشريعة لأنه رأى في عقوبة السجن المؤبد قصاصا كافيا من جرائم الارهابيين؟

هل يرون أن جلالته يهدر أحكام المحكمة العسكرية ومحكمة التمييز العسكرية العليا ويهين القضاء ويخرق الدستور لأنه مارس حقه الدستوري في التصديق على أحكام الإعدام مع تخفيفها؟

هل يرون أن جلالته يهدر حقوق الشهداء وذويهم وتضحياتهم لأنه أنزل حبل المشنقة عن الإرهابيين الأربعة مكتفيا بسجنهم المؤبد؟

وإن كانوا – كما أحسبهم – لا يرون في ملك البحرين أيا من هذه النقائص، فهل يفكرون قليلا في مغزى قراره بتخفيف أحكام الإعدام الى السجن المؤبد؟

لم أرد على حملة الهجوم وقتها إيمانا مني بأن صفات شخصي المتواضع ودوافعي لا علاقة لها بالفكرة التي أدعو لها. قد أكون شريرا وحقيرا وساعيا للشهرة واليوروهات كما قال السيد المسئول الكبير، لكن فكرتي سليمة. وبما أني أردت التركيز على الفكرة التي أدعو لها – وقف تنفيذ أحكام الإعدام – فقدت آثرت ولا زلت قصر الحديث على هذه النقطة. ومازلت أطمع – أملا مني في تغلب الجانب الخير من التركيبة الإنسانية على جوانب الغضب والعناد – أن يفكر الجميع في مغزى هذه القصة قليلا، ربما ندرك عبث مهاجمة الناس بسبب أفكارهم بدلا من تفحص هذه الأفكار وقبولها أو رفضها بناء على خيرها وشرها لا بناء على مايظنونه دوافع أصحابها؟ هل هذا كثير علينا؟ هل يستحيل علينا تنحية مشاعرنا السلبية جانبا – الغضب والكراهية والرغبة في الانتقام والعناد والخوف مما نجهله والزهو والغيرة والشعور بالتهديد – والنظر للأفكار بمعزل عن أصحابها ومصدرها؟

ألا يمكن أن يأتيك خصمك أو حتى عدوك بفكرة تفيدك؟ ألا يمكن أن ينطق بالحق حتى وإن أراد به الباطل؟

ألا يمكن أن يكون شريكك ونصيرك ومساعدك مخطئا أو تكون أفكاره غير سليمة أو قاصرة أو ضارة؟

لماذا لا نحاول، لوجه الله والإنسانية، أن نفصل بين الشخص وبين الفكرة، وأن نفحص الفكرة بتجرد وموضوعية قدر ما نستطيع، ونأخذ بما يفيد فيها ونترك ما لا يفيد؟ أليست هذه أبجديات العقل؟

مرة أخرى، لا ضرورة أمنية ولا سياسية ولا قانونية ولا إنسانية لإعدام المجرمين – كل المجرمين، سواء كانوا إرهابيين أم تجار مخدرات أم مغتصبين. من يريد إزاحة خطر المجرم عن المجتمع يمكنه تحقيق ذلك من خلال عقوبة السجن بأشكالها المختلفة. والثابت في علوم الجريمة أن الإعدام لا يحقق الردع بأكثر مما يحققه السجن. وخاصة في حالة الإرهابي الذي هو انتحاري النزعة، على استعداد للموت تحقيقا لهدفه، لا يوقفه عقوبة الإعدام ولا تردعه.

من يريد توصيل رسالة سياسية بالحزم وعدم التهاون يمكنه تحقيق ذلك من خلال عقوبة السجن. أما الإعدام فيبعث برسالة مختلفة، تتجاوز الحزم الى الانخراط في الثأر، سواء كان هذا مقصودا أم غير مقصود. والثأر رسالة لا تليق بمجتمع ودولة يسعيان لتصحيح اختلالات الأفراد ودرء المفاسد.

من يريد احترام القانون وأحكام القضاء والدستور يمكنه تحقيق ذلك من خلال تخفيف أحكام الإعدام الى  السجن المؤبد أو حتى تعليق تنفيذها – وبالتالي يظل المحكوم عليه بالإعدام سجينا بشكل مؤبد. لا أحد عاقل يدعو للتدخل في عمل القضاء، أو لتجاهله. تعليق تنفيذ أحكام الإعدام جزء من أحكام القانون والدستور كما نرى في حالة ملك البحرين وفي حالات مشابهة في البلاد التي لا تزال تطبق عقوبة الإعدام مثل الولايات المتحدة. وهناك بالإضافة لذلك إمكانية تغيير القانون نفسه، بحيث يتم إلغاء عقوبة الإعدام نفسها، لكن هذا أمر أدرك أن تعقيداته أكثر ويحتاج وقتا أطول، في حين أن هناك بالفعل أحكام إعدام صادرة من المحاكم تنتظر التصديق والتنفيذ. وهذه يمكن لرئيس الجمهورية وقف تنفيذها فورا ووفقا لأحكام الدستور والقانون.

ومن يريد القصاص للشهداء والضحايا وذويهم يمكنه تحقيق ذلك من خلال عقوبة السجن المؤبد. بعض ذوي الشهداء والضحايا لا يرضون عن الثأر والانتقام بديلا، ولو كلف الأمر حربا تطول أربعين عاما مثل حرب البسوس. وبعض أهالي الشهداء والضحايا يسموا حزنهم فوق الثأر والانتقام، بل ويسعون هم أنفسهم لانهاء أسباب القتال الذي قضى على أحبائهم. ستجدون آباء وأمهات وزوجات وأبناء فلسطينيون ينضمون لمبادرات لانهاء استخدام القوة، وضحايا جرائم قتل واغتصاب أمريكيون يكرسون حياتهم لتغيير الظروف الاجتماعية التي تفرز العنف في الأحياء الفقيرة والمهمشة. هذان الجانبان من ردود فعل ذويي الضحايا موجودان في العالم، ولا أعلم أي الجانبين سآخذ أنا شخصيا إن قتل أحد ابني أو ابنتي. لكن موقفي الشخصي ساعتها لا يهم أحدا لأني سأكون تحت تأثير الألم الهائل الناتج عن فقدان من أحب. نحن نمسك بالأم التي تحاول القفز من الشرفة بسبب حزنها الفاجع على فقدان وليدها. نتفهم حزنها لكننا نمنعها، رحمة منا وإيمانا. وهذا هو دور العاقلين منا. دور الدولة حماية النظام العام لا الانسياق خلف مشاعر أهل الضحايا ورغبتهم – المفهومة – في الثأر. الحماية والأمن هما الهدف، لا الثأر. كرر هذه الجملة عشر مرات حتى تركز في وعيك جيدا. الحماية والأمن هما مهمة الدولة لا الثأر.

لا أزعم أني أعرف أسباب ملك البحرين ولا دوافعه الشخصية في تخفيف أحكام الإعدام للسجن، لكني أزعم أن هذا القرار سليم، يحقق المصلحة ويدرء المفاسد.

رفضت المصري اليوم نشرها بسبب ضغوط الأجهزة الأمنية