حين تكون الخرافات الليبرالية قاتلة

أن يكون المرء ليبراليا لا يعني تعاميه عن خرافات الليبرالية ومخاطرها. فمثل كل المذاهب والنظم السياسية، تحتوي الليبرالية على عدد من الخرافات (أو “التناقضات” لو أردت استخدام مصطلحات ماركسية) التي يمكنها في ظروف معينة تدمير المجتمعات التي تعيش في ظلها. في الأوقات العادية تتمتع النظم الليبرالية بقدرة هائلة على تغطية هذه الخرافات واحتواء آثارها المدمرة، لكن الأزمات الحادة، كالحروب والكساد والأوبـئة، تضعف هذه القدرة بشدة. ساعتها تتصرف النظم الليبرالية بإحدى طريقتين: إما تتمسك بخرافاتها حتى تنفجر فيها وتقيم مكانها نظم فاشية، أو تضع خرافاتها جانبا وتتخذ إجراءات “استثنائية” تمكنها من عبور الأزمة والعودة لحياتها العادية واستعادة خرافاتها السعيدة تدريجيا.

أهم هذه الخرافات “حرية السوق” وحياد الدولة.

الفكرة القائلة بأن “اقتصاد السوق” يعمل وفق آليات عرض وطلب “حرة” دون تدخل من الدولة ويحقق أكبر منفعة للجميع هي خرافة لا علاقة لها بالواقع. فلم تخضع الحياة الاقتصادية لسيطرة منطق السوق إلا حديثا، مع التحول للرأسمالية (ولازال نصيب “السوق” من الحياة الاقتصادية محل صراع حتى اليوم). ولم يحدث هذا التحول إلا بتدخل مباشر – وعنيف – من الدولة مكن قوى السوق من توسيع نشاطهم ومواجهة المقاومة الاجتماعية لمنطق السوق ولاحتواء آثاره المدمرة.

السوق يعتمد على الدولة كما يعتمد جسم الانسان على الاكسجين: السياسة المالية والمصرفية، قوانين العمل، الضرائب، التصاريح الخاصة باستغلال الموارد الطبيعية وبالإنتاج والتوزيع، السياسة الجمركية، قوانين الاحتكار، المعايير والمقاييس سواء الخاصة بالإنتاج أو بالسلامة، الى آخره – كل هذه السياسات والقواعد تضعها الدولة وتطبقها وتقمع الخارجين عنها. لا يوجد دولة تقف على الحياد في هذا الأمر: حين ينظم العمال اضرابا لإرغام أصحاب العمل على تحسين شروط عملهم، هل تتفرج الدولة عليهم أم تؤيدهم أم تزج بزعماء الإضراب في السجن؟ ضابط أمن الدولة الذي يتولى ملف النقابات: هل يفعل هذا من باب الفضول وقضاء وقت فراغه أم أن لديه مهمة محددة؟ كم تنفق الدولة على دعم الخدمات التي يستخدمها الفقراء أكثر (كالمواصلات العامة) وكم تنفق على الخدمات التي تستخدمها الفئات المتوسطة والغنية أكثر (كالطرق المؤدية للمصايف)؟ كم تنفق على “دعم الصناعات” وعلى دعم صغار المزارعين؟ هل تتدخل لوضع حد أدني للأجور أم تترك الأمر لــ”قوى السوق” (أي لأصحاب العمل)؟

باختصار، الدولة هي التي تخلق إطار السوق وهي التي تضمن استمراره وتشكل علاقاته، وفي ذلك كله تنتصر لفئات على حساب فئات أخرى.

لعبت الدولة هذا الدور في كل بقاع العالم، من البلاد التي قادت التحول لاقتصاد السوق مثل بريطانيا، الى البلاد التي “لحقت” بها (بدرجات متفاوتة من النجاح) مثل ألمانيا واليابان ومصر وكوريا. حتى أكثر النظم زعما تبنيها لمذهب “حرية السوق” – الولايات المتحدة في عهد “ريجان” أو تشيلي في عهد “بينوشيه” – كانت الدولة هي المنظم الرئيسي لعمل هذا السوق “الحر” وراسم مساراته والحامي الرئيسي لقواه.

السؤال الليبرالي الحقيقي اذا ليس “هل تتدخل الدولة في تنظيم الاقتصاد أم تتركه لقوى السوق؟” – هذا سؤال خرافي. السؤال الليبرالي الحقيقي هو “كيف تتدخل الدولة في تنظيم الاقتصاد والسوق ولمصلحة من؟” هل تتدخل من خلال التشريعات الضريبية والاستثمارية كالاعفاءات والدعم والحوافز وغير ذلك من الأدوات التي تهدف لتوجيه السوق أم من خلال قيادة السوق نفسه (أو قطاعات منه) من خلال المساهمة في الإنتاج أو احتكار قطاعات منه؟ كيف تتعامل مع مقتضيات العدالة الاجتماعية والتفاوت في الأجور والدخول والثروات؟ وكيف تفعل ذلك كله في سياق اقتصاد مندمج في الاقتصاد العالمي ويتحرك فيه رأس المال بحرية بحثا عن أفضل العوائد وأنسب النظم التشريعية؟ إجابات النظم الليبرالية على هذه الأسئلة تنوعت حسب البلاد وحسب الوقت، بدرجات نجاح وفشل ومعاناة متفاوتة. أما حين تجنبت النظم الليبرالية الإجابة عن هذه الأسئلة وتمسكت بالخرافة القديمة القاضية بحياد الدولة وعدم تدخلها، تسببت في نتائج كارثية على المجتمع.

باختصار، لا تحتاج لأن تكون ماركسيا كي تدرك خرافية “حرية السوق” و”حياد الدولة”: كثير من الاقتصاديين الليبراليين – من “جون مينرد كينز” الى “جوزيف ستجليتز” الى “بول كروجمان” الى “توماس بيكيتي” – قضوا حياتهم في توضيح خطورة هذه الخرافة والسعي لاستبدالها بتدخل أكثر رشادة وعدالة من جانب الدولة، سواء في دراساتهم أو حين تولوا مناصب مؤثرة في إدارة اقتصاديات بلادهم والمؤسسات الاقتصادية العالمية.

كذلك لا تحتاج لأن تكون يساريا كي تلاحظ النفوذ الذي تمارسه قوى السوق على الدولة والترابط بين نخبها والنخب المسيطرة على السوق – ترابط في المصالح وفي الرؤى وأحيانا في علاقات الدم والمصاهرة: كثير من علماء السياسة والاجتماع الليبراليين – من تيدا سكوتشبول الى سوزان سترينج الى فرانسس فوكوياما الى انتوني جيدنز وتلاميذهم – قضوا حياتهم في تحليل العلاقة بين الدولة وقوى السوق والظروف التي تحدد مدى استقلال الأولى عن الثانية.

وهذا هو لب الموضوع: يمكنك أن تكون ليبراليا أعمى البصيرة كما يمكنك أن تكون ليبراليا مبصرا.

حين ينساق الليبراليون خلف خرافة حرية السوق وحياد الدولة يفقدون السيطرة على الصراع السياسي في مجتمعاتهم، تاركين مصيرها في يد المسيطرين على السوق. وعمليا يعني ذلك اتساع الهوة بين قلة شديدة الثراء وأغلبية فقيرة، ونهبا للموارد العامة وكثير من الفساد، إضافة لسياسات تبقي الاقتصاد ضعيفا ومعرضا لهزات عنيفة – مثل كل الاقتصادات العربية. وبرغم كارثية الأحوال الاجتماعية المترتبة على هذا الوضع المختل، إلا أن قوى السوق والدولة عادة ما تجد وسائل لتسكينها أو صرف الأنظار عنها بما يسمح لهذا الوضع المختل بالاستمرار لفترات طويلة. لكن حين يتعرض النظام لأزمة اقتصادية عنيفة تتضاعف كارثية الأحوال الاجتماعية بدرجة تدفع بأعداد متزايدة من الناس لحافة الفزع أو الانفجار. وفي نفس الوقت تزداد انقسامات المصالح بين قوى السوق نفسها مثل تلك المرتبطة بالقطاعات المالية مقابل القطاعات الإنتاجية، أو بالاقتصاد العالمي مقابل المرتبطين بالسوق القومي، الكبار مقابل الصغار، القريبون من الدولة مقابل البعيدين، الخ (هذه كلها تبسيطات لخريطة أكثر تعقيدا). ومع هذه الانقسامات، وتحت وطأة الأزمة، تقل قدرة هذه القوى على التصرف بشكل يحفظ المصالح الجماعية لهم ويبحث كل عن وسيلة للنجاة بنفسه غالبا من خلال اغراق الآخرين. وتضطرب يد المسيطرين على الدولة تحت ضغط الأزمة وتزايد حدة الضغوط المتعارضة التي يتعرضون لها. وهنا يحدث أمر من اثنين.

الأول: تتمسك النخبة الحاكمة بخرافة حرية السوق وحياد الدولة، وتقصر تدخلها لمعالجة نتائج الأزمة على الحد الأدنى وكأنها ظروف استثنائية نشأت فجأة كنتيجة لهذه الأزمة غير المتوقعة، لا نتيجة سياسات اقتصادية واجتماعية كارثية متراكمة عبر عقود. وكلما زادت حدة الأزمة كلما فشلت هذه الاستراتيجية وبحثت الأعداد المتزايدة من المفزوعين والغاضبين عن “قائد” تلتف حوله كي ينقذها، مانحة إياه كافة الصلاحيات الاستثنائية التي تمكنه من انقاذها. هذا هو الطريق المؤدي لقيام نظم فاشية.

تسعد الجماهير في بداية قيام الفاشية؛ وحين تفرض النخبة الحاكمة الجديدة ضرائب باهظة على ثروات الأغنياء أو تصادر ممتلكاتهم تهلل لها الأغلبية المطحونة وتشعر بالتشفي في هؤلاء الذين أذاقوها المر عبر عقود. تتصور تلك الأغلبية أن مصالحها أصبحت أخيرا بوصلة عمل الدولة، إلا أنها تكتشف سريعا – وبكثير من الألم – أن النخبة الحاكمة الجديدة مشغولة بتثبيت سيطرتها وإثراء نفسها أكثر من أي شيء آخر، ومع تثبيت سيطرتها غالبا ما تتحالف النخب الحاكمة الجديدة مع بقايا نخب السوق القديمة لتنتج هجينا أكثر توحشا يسيطر على السوق والدولة في آن واحد، في حين تظل الفئات المطحونة مطحونة. وحين تحاول تلك الفئات رفع صوتها احتجاجا تنزل عليها يد النخبة الحاكمة باسم الدولة، وباسم مسيرة التنمية، وباسم الشعب.

قصة حزينة متكررة، من “مزرعة الحيوانات” إلى “ميرامار” إلى “ذات”.

الثاني: تتوقف النخب الحاكمة عن الهراء وتتحلى بالشجاعة اللازمة لتعديل السياسات الاقتصادية والاجتماعية بشكل جذري، بما يتضمنه ذلك من تأكيد استقلالها إزاء قوى السوق وتحجيمها لهذه القوى ولمصالحها ومنعها من الشطط وتدمير نفسها والمجتمع الذي تعيش فيه، وتبني برامج تحمي مصالح الأغلبية بدرجة تقلل من فزعها وغضبها. وكلما زادت حدة الأزمة كلما تطلب نجاح هذه الاستراتيجية إجراءات جذرية أكبر باتجاه طمأنة الأغلبية. هذا ما فعلته النظم الليبرالية التي نجت من الكساد الكبير في الثلاثينات – مثل الولايات المتحدة، وما فعلته أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية (بمساعدة أمريكية). لا تصادر هذه السياسات الجديدة ثروات الأغنياء ولا تتحفظ على أرصدة البنوك ولا تتبنى قواني بأثر رجعي – أي لا تهدم أساس الثقة في السوق والاقتصاد، لكنها تلجم أصحاب العمل وتمنعهم من سرقة الأغلبية واستغلالها بلا رادع، وتوقف ضخ الموارد العامة في جيوبهم، وتواجه الفساد المقنن والممارسات الاحتكارات، وتعيد توجيه الموارد العامة المحدودة لإنقاذ الأغلبية من الهاوية وفتح فرص المشاركة في الاقتصاد أمامها. باختصار، تفكك اقتصاد المحاسيب الرث الذي نعيش في ظله وتبني اقتصاد ليبرالي يسمح للسوق بالنمو المتوازن في خدمة المجتمع ككل.

لكن هذا لم يحدث، بعد.