مستقبل الليبرالية في مصر (٣): هل يمتلك الراغبون في الديمقراطية القدرة على تحقيقها؟

إن لم يحدث هذا، ستظل الديمقراطية مثل "النهضة"، رغبها يشترك فيها الأغلبية دون أن يعرفون كيف يحققونها ويتباكون على غيابها لعقود.

زعمت في مجموعة مقالات سابقة أن الليبرالية ستنتصر وتسود الحياة الثقافية والسياسية المصرية، وذلك لأنها تمثل الوعاء (أو الغطاء) الإيديولوجي للحداثة، ولأن الحداثة المصرية – برغم كل مشكلاتها وصراعاتها – قد انتصرت على خصومها وألقت بهم في هامش ركابها.

واستخدمت في هذه المقالات تعريفا مبسطا لليبرالية، باعتبارها رؤية للإنسان والمجتمع تقوم على إعلاء الحريات الفردية والمساواة الكاملة بين الأفراد وسيادة الفرد على ذاته عما عداها من اعتبارات، وذلك في الحياة الشخصية كما في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية.

لكن حتى لو صح تحليلي فإنه يعني أن الأغلبية ترغب في قيام نظام ديمقراطي ليبرالي، لكنه لا يعني بالضرورة قدرتها على تحقيق ذلك. الدراسات الاقتصادية تميز بين الرغبة والطلب. الرغبة مفهومة – هي كل الأشياء التي نريدها أو نتمناها، أما الطلب فهي الأشياء التي نشتريها بالفعل أو نستطيع شرائها إن توفرت. الفارق بين الأمرين هي المقدرة. القدرة على الشراء – في الاقتصاد – هي الفارق بين الرغبة وبين الطلب. وفي حين يظل من المهم فهم رغبات الناس – لمعرفة أحلامهم وطموحاتهم وما يحرك سلوكهم، فإن فهم الطلب هو الأهم لفهم حركة الاقتصاد لأن الطلب هو الذي يحدد ما يباع وما يشترى وبالتالي ما يظل في السوق وما يبور. نفس الشيء في السياسة: فهم الطلب – أي الرغبات المقترنة بالقدرة على تحقيقها – يعطينا مفاتيح مهمة لفهم من ينتصر ومن يخسر في الصراع بين المجموعات والرؤى الموجودة على الساحة.

الديمقراطية في مصر: رغبة أم طلب؟

بمعنى آخر، هل الراغبين في الديمقراطية لديهم القدرة على الضغط على خصومهم بحيث يحققوا رغبتهم أم هم متفرجين يتوزعون بين الأمل والحسرة؟

إجابتي أن المطالبة بالديمقراطية في مصر تدخل في باب الرغبة أكثر بكثير مما تدخل في باب الطلب. صحيح أن الرغبة عارمة في تحول مصر للديمقراطية (٨٦٪ وفقا لاستفتاء الباروميتر العربي في ٢٠١١) لكن ذلك لا يعني أن لدى هؤلاء قدرة حقيقية على تحقيق رغبتهم – أي تحويلها إلى “طلب”. في ٢٠١١ و٢٠١٢ أدت الاحتجاجات الشعبية الواسعة لمنح المطالبين بالديمقراطية القدرة على ترجمة الرغبة إلى واقع، لكن هذه القدرة انهارت سريعا كما رأينا، وهذه سمة “القدرة” المشتقة من الاحتجاجات الشعبية – لا تدوم طويلا ولا يمكن تسخيرها بسهولة لتحقيق أهداف محددة.

وحتى داخل هذه الأغلبية التي ترغب بالديمقراطية هناك سؤال حول معنى “الديمقراطية” لهم: كم من هؤلاء يرغب في “ديمقراطية ليبرالية” وكم منهم يرغب في “حكم الأغلبية” (سواء كانت الأغلبية المقصودة إسلامية أم الطبقات المطحونة)؟ ومع أن هذا سؤال مشروع، إلا أنه يستحيل الحصول على إجابة شافية له في ظل الوضع الحالي، ومن ثم يظل هذا السؤال معلقا مع إجابات بقية الأسئلة المتعلقة بمدى تغلغل وانتصار التحديث في مصر.

لكن دعنا نفترض – مؤقتا – أن افتراضاتي سليمة وأن الأغلبية ترغب في التحول لنظام ديمقراطي بمعنى الديمقراطية الحديثة الليبرالية المتعارف عليه، ونركز على فهم السؤال الأكبر المتعلق بالقدرة: هل هناك أي علاقة بين انتشار الرغبة في الديمقراطية وبين تحولها إلى طلب؟ هل الرغبة في حد ذاتها تخلق القدرة؟

فهم علاقة الرغبة بالقدرة هو مفتاح المسألة كلها. فهنا مكمن الأمل؛ في هذه النقطة التي تلتقي عندها الرغبة بالقدرة. إن التقت، انتصبت الماكينة وأخرجت قماشا. وإن لم تلتق، ظلت الرغبة رغبة والعجز عجزا. إن التقت الرغبة بالقدرة أنجبت، وإن لم تلتق ظلت إحباطا مستديما، بكل نتائج الإحباط المعروفة.

من أين تأتي القدرة؟

أول متطلبات القدرة هو توفر الرغبة! وليس هذا مناقضا لما سبق؛ الرغبة ضرورية لكنها لا تكفي وحدها. وجود الرغبة، أي انتشار القيم الليبرالية الأساسية في المجتمع، يعني توفر المناخ المساند للسعي لتحقيقها؛ الريح مواتية لكن الأمر يحتاج لسفن كي تدفعها هذه الريح، الغاز منتشر في الجو لكن الأمر يحتاج لماكينات تسيل هذا الغاز وتعبئه في أسطوانات، وهكذا. توفر الرغبة لدى الأغلبية قد يكون أصعب متطلبات التحول الديمقراطي، لأنه لا يمكن خلق الرغبة مها بذلت من جهد (لأن انتشار القيم الليبرالية في مجتمع ما عملية تستغرق عقودا وأحيانا قرون). نحن إذا تجاوزنا الجزء الأصعب، الجزء الذي لا يمكننا التأثير فيه إلا لماما، ولم نعد بحاجة لشرح أهمية أو فوائد الديمقراطية ولا تبرير عدائنا للاستبداد. اتفقت الأغلبية على الرغبة في الديمقراطية لكن البعض يسأل كيف، والبعض يتشكك في قدرتنا على ادارتها، حتى الاستبداد نفسه لا يعاديها صراحة لكنه يسأل “بط هوين”. بقي الجزء الذي يمكننا التأثير فيه: بناء القدرة، أي تصميم وبناء وتشغيل الماكينات أو السفن أو – لنسمي الأشياء بأسمائها – بناء التنظيمات السياسية الملائمة التي يمكنها فرض التحول الديمقراطي.

التنظيمات السياسية هي حجر الأساس للقدرة إذا، فلا تحول للديمقراطية الليبرالية دون وجود تنظيمات سياسية تتبناها وتدفع نحوها، لا العكس. فالتنظيمات السياسية ليست وليدة الديمقراطية الليبرالية – التنظيمات هي التي تأتي بها. فإن كنت تشترط وجود نظام ديمقراطي وانتخابات نزيهة وإعلام حر ونظام إداري شفاف كي تشارك في تنظيم سياسي فاعلم أنك ضائع وستظل ضائعا مالم تدرك أن هذه “الشروط” هي المبتغى والهدف الذي من أجله تبنى التنظيمات. لا توجد ديمقراطية واحدة في العالم كله قامت بقرار من الحاكم، وانما انتزعت التحولات الديمقراطية من خلال ضغط تنظيمات سياسية عملت في ظروف استبدادية وتحت وطأة القهر. تذكر ذلك.  

تصميم وشكل هذه التنظيمات مسألة بالغة الأهمية لأن التصميم الذكي يعظم القدرة ويقلل من أثر مواطن الضعف (وأي قوة سياسية لديها قسط من الأمرين). التنظيمات السياسية تشمل الأحزاب، والنقابات، والاتحادات، والجمعيات، والمبادرات، وأي تربيطات تجمع الناس حول تحقيق أهداف عامة – سواء كانت سرية أم علنية، لها مقرات وأسماء وشعارات أم غير رسمية لكن لها أهداف محددة في مدى زمني محدد بتوزيع مهام محدد. ما هو شكل التنظيم السياسي الملائم لمجتمع يعيش في ظل قبضة أمنية غشيمة؟ وما هو شكل التنظيم السياسي الملائم لمن يعيشون خارج نطاق هذه القبضة الأمنية؟ ما هو شكل التنظيم السياسي الملائم للفئات الاجتماعية والمهنية المختلفة؟ وكيف تنفذ هذا التصميم؛ كيف تبني هذا التنظيم بشكل يتفادى القيود المفروضة ويستغل الفرص المتاحة؟

عناصر القدرة نفسها تحتاج رؤية واضحة من كل تنظيم سياسي: المال، المعلومات، الاتصال، القدرة على التنظيم، القدرة على الحشد، الرؤى، التأييد، القدرة على صياغة المواقف، القدرة على التفاوض، القيادة – كل هذه عناصر للقدرة السياسية يمكن للتنظيم التركيز في بعضها. اختيار عناصر القدرة التي يركز عليها التنظيم يوضح أسلوب العمل المناسب، سواء كان عمل تعبوي أو نخبوي أو تشبيك أو تعلم وبحث وكتابة الى آخره.

وأخيرا التشغيل: كيف تحدد أهداف عملية يمكن فعلا للتنظيم تحقيقها في مدى زمني منظور بحيث يراكم نجاحات ويتعلم من التجربة؟ كيف يتفادى التنظيم فخ التعجل باسم ضرورة “انقاذ مصر” فيضع لنفسه أهداف أكبر من قدرته ثم يفشل في تحقيقها ويتفكك تحت وطأة فشله؟ وكيف يتفادى في نفس الوقت الاستسلام لفخ “الأهداف التاريخية” التي لا يعلم أحد متى تتحقق وبالتالي يتحول التنظيم لنوع من الإدمان أكثر مما هو عمل سياسي له آثار ملموسة؟ بمعنى آخر، كيف يجد كل تنظيم أهداف تقويه وتكبر من قدرته مع الوقت؟

قدمت إجاباتي على معظم هذه الأسئلة في هذه المقالات، لكني أدرك أن إجابات أخرى قد تكون خير منها. وفي كل حال ليس هنا محل الإجابة على هذه الأسئلة وإنما أشير اليها من باب توضيح المقصود ببناء القدرة والتأكيد على أنها عملية تستغرق وقتا. المتعجل الذي يريد إنقاذ مصر فورا لا يحب هذا الكلام. لكني أريد تذكيره بأني شخصيا قابلته من خمسة عشر عاما، في ٢٠٠٥، ووجدته ساعتها متعجلا جدا ولا يستطيع الانتظار ولا وضع أساسات لأن مصر تحتاج لإنقاذ فوري، ثم قابلته في ٢٠١١، وفي ٢٠١٤، وفي ٢٠١٨، وسأقابله حتى أموت لأن الحقيقة أن لا أحد ينقذ بلدا لمجرد رغبته الشديدة في ذلك. رغبتك لا تكفي؛ نجاحك يعتمد أساسا على قدرتك. وكون البديل كارثة لا يهم، لأن الكوارث تقع كل يوم. إن كان لديك القدرة على منع الكارثة يمكنك منعها، وإن لم يكن ستقع. الموضوع واضح.

الريح مواتية للتحول الديمقراطي. التحديث يتواصل وينشر القيم الليبرالية في كل مكان، والعولمة تدفع هذه القيم للتغلغل في قطاعات لم يخطر على بالنا أن يطالها التحديث. انتشار القيم الليبرالية وتسيدها يجعل الديمقراطية الليبرالية مرغوبة من الأغلبية. المطلوب الآن الاستناد لهذه الرغبة وبناء تنظيمات سياسية تحولها تدريجيا لطلب يتسع ويقوى حتى يترجم لتحولات ديمقراطية مضطردة. إن لم يحدث هذا، ستظل الديمقراطية مثل “النهضة”، رغبها يشترك فيها الأغلبية دون أن يعرفون كيف يحققونها ويتباكون على غيابها لعقود.