مستقبل الليبرالية المصرية (٢): مفرمة العولمة

ثم جاءت مفرمة العولمة لتصهر المجتمع والدولة في أشكال جديدة، وتفتح أبوابا أمام موجات تحديثية أشد وأكبر. وللتوضيح، فإن شكل المجتمع والدولة في مصر قد تأثرا دوما بالنظام العالمي، من أيام الإمبراطورية الرومانية وحتى اليوم، اقتصاديا وسياسيا وأمنيا وإداريا وثقافيا. وأقصد بالنظام العالمي الحكام والقوى الاجتماعية التي يستندوا اليها، وتلك التي تسيطر على الاقتصاد، وتلك التي تنتج وتنشر ثقافات وايديولوجيات. بهذا المعنى فالنظام العالمي يشمل النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية السائدة في العالم في لحظة ما.

موقع مصر ودورها في النظام العالمي كان دوما عاملا هاما في تحديد حجم الاقتصاد ككل، ومن ثم تحديد حجم الثروة التي تستطيع الطبقة الحاكمة تكوينها وحجم المتبقي للأغلبية المحكومة. كذلك رسم النظام السياسي العالمي الحدود التي تتحرك فيها الدولة المصرية ونخبها، وشكل مصدر التحديات التي تحاول التعامل معها والنماذج التي تسعى لمحاكاتها. النظام السياسي السائد في مصر – أي توزيع السلطة وشكل الدولة – كان دائما متوافقا مع توزيع الثروة فيها ومساعدا على ترسيخه، بما في ذلك شكل وكفاءة أجهزتها الإدارية والأمنية، وطبيعة نخبها الحاكمة وتوجهاتهم. وفي أحيان أخرى، استثمر الحكام توزيع الثروة أو دمروه وأعادوا تشكيله لخدمة برنامجهم السياسي والأمني. لكن سواء ركبوا عليه أو خضعوا له، فإن شكل الدولة ظل متأثرا بشدة بحجم الثروة فيها وطريقة توزيعها. وكذلك كان شكل المجتمع متوافقا مع توزيع الثروة والقوة ومساعدا على ترسيخه: طبيعة العلاقات بين فئاته وشكل النظام الاجتماعي وقواعده، ونوع الثقافة السائدة. (هناك خلاف عميق في العلوم الاجتماعية حول الوزن النسبي لتأثير كل من هذه العوامل، لكن دعنا نتجنب هذا الخلاف مؤقتا).

تأثير النظام العالمي على شكل الدولة والمجتمع في مصر يساعدنا على فهم الفترات التي ظهرت فيها دولة قوية ومتماسكة في مصر والفترات التي تحولت فيها لدولة تابعة وهزيلة. في كل الأوقات، كان النظام العالمي حاضرا في مصر بدرجات وأشكال متفاوتة، سواء حين كانت مصر مخزن القمح للإمبراطورية الرومانية، أو محطة هامة للتجارة العالمية حين كان البحر المتوسط مركزها، أو عانت من التهميش والفقر النسبي مع تحول خطوط التجارة العالمية واكتشاف الأمريكيتين. سواء كانت جزءا مستكينا من الإمبراطورية الرومانية أو العربية أو العثمانية أو البريطانية أو الأمريكية، أو كانت تسعى للانفصال والاستقلال تحت قيادة على بك الكبير أو محمد علي أو عبد الناصر.

ولا يعني هذا غياب دور الدولة المصرية نفسها، فقد لعبت الدولة دوما الدور القائد في عمليات التحديث. لكن ما يعنيه أن النظام العالمي كان الحاضنة التي تعتمد عليها هذه الدولة وتتغذى منها وتتشكل وفقا لقواعدها – حتى وهي تحاول الاستقلال عنها.  لا يعني هذا أيضا أن الأطراف المصرية، سواء الحكام أم النخب والفئات المختلفة، كانت كائنات صلصالية مسلوبة الإرادة، لكنه يعني أن إرادتها وطموحاتها تأثرت بالظروف العالمية التي نشأت فيها، وأن هذه الظروف وضعت حدودا أمام ما يمكنها تحقيقه.

إذا ما الجديد في العولمة؟

كثير، يمكن تلخيصه في ستة تغيرات كبرى:  

١- توسيع النظام السياسي العالمي بما يتجاوز نظام الدول القائم منذ القرن التاسع عشر ويعيد صياغة دور الدولة والقواعد التي تحكم حركتها. فبرغم بقاء مبدأ سيادة الدولة الذي يفترض حرية الدولة في اتباع السياسات التي تراها مناسبة على أراضيها، إلا أن خيالية هذا الافتراض أصبحت واضحة بشكل متزايد مع تواتر وتكثف القيود المفروضة على قرارات الدول. اللطيف أن هذه القيود كلها تقريبا تم فرضها من خلال معاهدات واتفاقيات انضمت لها الدول “طواعية” ومن ثم أصبح من المثير للسخرية تحجج بعضها بمبدأ السيادة في رفض الالتزام بها. وبالإضافة إلى تقييد سيادة الدول، أضافت العولمة لدور الدولة مهام جديدة (معظمها يسهم بتنظيم اندماجها في النظام العالمي الناشئ) أصبح عليها القيام بها وإلا واجهت فشلا متزايدا وتهميشا إن لم يكن تدخلا حاسما لتغيير أسلوب الحكم فيها.

 في نفس الوقت، كثفت العولمة شبكة العلاقات السياسية العابرة للدول، سواء تلك التي تقوم على تعاون الدول مباشرة (مثل الأمم المتحدة وفروعها اللانهائية أو حلف الأطلنطي)، أو تلك القائمة بين أجزاء من الدول (مثل شبكات التعاون والتحالف بين وزارات ونخب داخل الدول تتشارك في المصالح والرؤى – مثل أجهزة الاستخبارات أو وزارات الطاقة)، أو تلك التي تتجاوز تقسيم العالم الى دول (مثل التجمعات العالمية غير الحكومية التي لا تقوم على مبدأ الجنسية).

باختصار، تغيرت طبيعة الدولة ومهامها وحدود حركتها، كما أصبحت الدول جزءا من شبكة علاقات تنمو من تحتها وعبرها وفوقها وتتجاوزها.

٢– أنها أعادت تشكيل النظم الاقتصادية كلها داخل منظومة سوق رأسمالي عالمي. ولا يقتصر ذلك على عولمة الإنتاج والتوزيع – الجانب الأكثر شهرة في قضية العولمة – ولا نمو التجارة العالمية واحتلالها لنسبة كبيرة من الاقتصاد العالمي، بل ربما الأهم من ذلك كله هو خلق أطر للاقتصادات القومية والمحلية – الرسمي منها وغير الرسمي – وإعادة صياغة قواعد عملهم والمساحات المفتوحة لهم بأشكال تجعلهم إما امتدادات للاقتصاد العالمي أو على الأقل متوافقين معه. بمعنى آخر، دفعت العولمة – ولا تزال – الاقتصاد الرأسمالي العالمي في طريق هيمنة لا يترك شيئا خارج إطاره، ولا حتى الجيوب التي تظن نفسها مستقلة عنه أو مقاومة له.

٣- يصاحب الأمرين السابقين، ويساعد عليهما، تكثيف شبكة التنظيم الاجتماعي للعالم. فكر في حجم التشريعات الصادرة عن هيئات الأمم المتحدة الاجتماعية والاقتصادية والتي ترسي قواعد التعامل بين الأفراد وبينهم وبين السلطات العامة، من التشريعات الخاصة بحماية الأطفال إلى حقوق الانسان إلى حقوق المرأة وتمكينها إلى قواعد المساواة إلى التشريعات المتعلقة بالزواج والأسرة إلى تشريعات العمل وغيرها. ثم أضف اليها القواعد غير المكتوبة التي تنشأ من دوائر التأثير العالمية المتداخلة، من قواعد احترام البيئة وحقوق الحيوان إلى القواعد المنظمة للعلاقات الخاصة ومكافحة التحرش والتمييز الجنسي.

٤- أنها، بالتفاعل مع العوامل الثلاثة السابقة، كثفت عملية خلق ثقافة عالمية، ليس بمعنى الأفكار والايديولوجيات والآداب والفنون فحسب، وإنما أيضا طريقة الحياة نفسها، من الملابس والأطعمة إلى تنظيم الوقت إلى الطعام إلى الوجدان إلى المعنى الذي يعطيه الناس لحياتهم والقيم التي يتبنونها. الثقافة العالمية التي أشير اليها ليست قالبا واحدا ينخرط فيه العالم كله، وانما شبكة تضم تنويعات وخلطات ثقافية متباينة ومتداخلة لكنها مرتبطة بعضها ببعض وتشكل فضاءً متصلا، وتنتظم جميعها وفق قواعد مشتركة، ولها مؤسسات ترعاها وتدعمها، ومثل الاقتصاد تسمح بجيوب وفضاءات متميزة عنها لكنها إما متوافقة معها أو محاصرة في خانة اللامعقول والهامشي (وهي نفسها خانة لها قواعد وأدوار).

٥- أنها، في سياق العمليات الأربعة السابقة، وسعت قنوات التفاعل المباشر بين المواطنين وأطراف النظام العالمي بغض النظر عن السياق الاجتماعي والجغرافي الذي يعيشون فيه، وذلك بدرجة غير مسبوقة في التاريخ المعروف. على سبيل المثال أصبح من الممكن لشخص يعيش في عمق الريف المصري أن تتأثر تنشئته الفكرية والوجدانية والاجتماعية – أي ثقافته – بمؤثرات آتية مباشرة من النظام العالمي (كتابات، أفلام ومسلسلات، أخبار، أصدقاء، فنون، معتقدات) دون المرور بالبوابات التي تسيطر عليها الدولة ومؤسساتها. من الممكن أيضا أن تتشكل الحياة العملية لمثل هذا الشخص (التعليم، الدخل، الهوايات، الحماية) بمؤسسات عالمية يتفاعل معها مباشرة دون المرور بالدولة ومؤسساتها، سواء انتقل للحياة خارج مصر أم ظل داخلها.

٦- أنها، في سياق التغيرات الخمسة السابقة، تغير من هوية الفرد وترتيب انتماءاته. عولمة السياسة والاقتصاد والثقافة والحياة الاجتماعية تدق معاول الهدم في الهوية القومية (التي نشأت هي نفسها في القرن ال١٨ وبطريقة مشابهة وعلى حساب هويات أخرى سبقتها)، وهو الأمر الذي يثير فزعا هوياتي لدى كل من لا ينتمي للمجموعات الاجتماعية الراكبة على موجات العولمة، ولدى كل من يعاني من هذه الموجات ويترجم معاناته الى مسألة هوية. ومن ثم يبحث الناس – كرد فعل – عن طمأنينة في هويات أخرى كانت نائمة أو تحتل مرتبة متأخرة في انتمائهم، كتأكيد الانتماء للجماعات المحلية، أو الجهوية، أو المهنية، أو العرقية، أو الجنسية، أو – بالطبع – الدينية. لكن في نفس الوقت، فإن مفرمة العولمة – الفعل الأصلي – تدفع في اتجاه ترسيخ الفردية كوحدة أساسية للتنظيم الاجتماعي في العالم ككل.

لا أريد الإيحاء بأن العولمة مشروع أو خطة، بل هي تغيير اجتماعي كبير مثل كل التغيرات الاجتماعية الكبرى التي مرت بها البشرية، من سقوط الاقطاع لنشأة الرأسمالية لانتشار الحداثة للثورة الصناعية. ومثلهم جميعا، لا تتم تغييرات العولمة بسلاسة أو بهدوء، بل في سياق من الصراع والشد والجذب، والكثير من المقاومة وردود الفعل، ومثل كل التغيرات الاجتماعية الكبرى يتغير شكلها وايقاعها من مكان لمكان ومن وقت لآخر. لكنها في نهاية المطاف تتم، ونتائجها واسعة وجذرية. وليس هنا مقام تحليل هذه النتائج كلها، لكن ما يعنيني فيها الآن هو أمرين:

الأول هو تشديد ارتباط الدولة المصرية بالنظام العالمي، وتقييد حركتها بقواعده ونظمه. لا يعني هذا التزامها الكامل بقواعده المكتوبة أو انعدام قدرتها على المساومة مع أطرافه، ولكنه يعني التزامها العام بقواعده العملية (ليس بالضرورة المكتوبة) وبحدود المساومات الممكنة مع أطرافه وفيما بينهم. هذا الارتباط يعني أيضا غياب أي خيار حقيقي للتراجع عن عمليات التحديث الجارية أو إعادة صياغة شروطها وأشكالها.

الأمر الثاني هو فقدان الدولة لجزء هام من دورها التحكيمي في الصراع حول صياغة شكل ومدى التحديث، بل فقدانها شبه الكامل للسيطرة على مدى التحديث وسرعته. وفي بعض الأحيان تجهل الدولة مدى التغيير الذي يحدث لمواطنيها حتى يصحو حكامها ذات يوم فيجدوا جيلا كاملا معتنقا ثقافة تتجاوز ما عرفوه وظنوه ثوابت وطنية وثقافية واجتماعية ودينية، فلا يعرفون كيف يتصرفون معه. في البداية لا يفهمون حجم التغيير الذي أصاب هذا الجيل، ثم يقللون من شأنه، ثم ينسبونه لفقدان الهوية والانتماء وتسيب النظام القديم ومؤامرات الخارج والداخل، ويظلوا هكذا بين الانكار وعدم الفهم حتى يبتلعهم التغيير، مثل الديناصورات وانسان النياندرتال القديم.