مستقبل الليبرالية العربية (١): انتصار الحداثة المصرية

كما أشرت في المقالات السابقة، فإن انتصار الليبرالية رهن بانتصار التحديث، أي انتصار اقتصاد السوق على ماعداه من الأشكال الاقتصادية، واحتلال الدولة ذات المؤسسات البيروقراطية لمركز الصدارة في إدارة الحياة السياسية، وانتشار الفردية كأساس للحياة الاجتماعية، وهيمنة النزعة الإنسانية والتفكير العلمي على الحياة الفكرية.

ربط انتصار الليبرالية بالحداثة في حد ذاته فرضية يختلف حولها الناس. فالبعض يرون أن الحداثة يمكن أن تعيش وتستمر في ظل أنظمة سياسية أخرى، كالفاشية (مثل إيطاليا وألمانيا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية)، ورأسمالية الدولة (مثل دول أوروبا الشرقية أثناء الحرب الباردة)، والاستبداد السلطوي مثل الصين الشعبية. ووجهة نظري أن هذه الأنظمة الاستبدادية تدفع بالحداثة للأمام، لكنها تتهاوى بمقدار نجاحها في تحديث مجتمعها. فهي تستخدم القوة لفرض التحديث على المجتمع وكسر مقاومة قواه التقليدية، لكنها حين تنجح في ذلك تكون قد حفرت قبر الاستبداد بيدها، فالقوى الاجتماعية الناتجة عن عمليات التحديث، بأفكارها وطموحاتها ومصالحها، ينتهي بها الأمر دوما للنزوع الى الليبرالية، لا يوقفها إلا قوة المجموعات الاجتماعية المرتبطة بالاستبداد نفسه ومدى سيطرتها على مفاصل القوة في الدولة.

إن كنت تختلف مع هذا الافتراض – ربط انتشار التحديث بانتشار الليبرالية – فلا حاجة بك لاستكمال المقال لأن بقيته قائمة على هذا الربط. أما إن كان هذا الربط في محله، فإن السؤال التالي يصبح إلى أي مدى انتصر التحديث في مصر، وهل نتجه نحو مزيد من التحديث أم إلى عكسه؟

وقبل أن أقدم إجاباتي أود التنويه الى عقبتين يعترضان قدرة أي باحث على الإجابة بدقة عن هذه الأسئلة. الأولى هي غياب الدراسات والمسوح الاجتماعية التي يمكنها قياس مدى تغلغل الحداثة في أوجه حياة المجتمع المصري الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية. هل نعرف على وجه الدقة مدى تغلغل اقتصاد السوق مقابل أشكال الحياة الاقتصادية الأخرى كتبادل الخدمات والمنتجات والأعمال غير المأجورة (وليس فقط حجم الاقتصاد العائلي الذي قد يشكل جزءا من اقتصاد السوق أو من أشكال اقتصادية بديلة)؟ هل لدينا دراسات علمية تكشف حجم المعاملات السياسية التي تتم خارج مؤسسات الدولة ونظامها السياسي؟ هل لدينا قياسات علمية لمدى انتشار الفردية؟ هل لدينا قياسات علمية لمدى انتشار التفكير العلمي والإنساني مقابل التفكير الغيبي وما فوق الإنساني؟ الإجابة – على قدر علمي – هي بالنفي على كل هذه الأسئلة؛ لدينا مؤشرات، دراسات متناثرة لبعض هذه الجوانب في بعض الحقب وبعض المناطق، بدايات لكني لم أجد بعد دراسة موثقة يعتمد عليها تتناول هذه الموضوعات بشكل شامل ومرض. وبالتالي فنحن كلنا نسير في الظلام، نهتدي فيه بهذه المؤشرات الجزئية، وبانطباعاتنا التي جمعناها من خبراتنا المباشرة، وهي طبعا غير كافية للتعميم المطمئن.

العقبة الثانية أن هذه الموضوعات معقدة بطبيعتها: فهي تتعلق بعمليات اجتماعية واسعة النطاق جدا، هي نفسها محصلة تفاعلات اجتماعية أخرى، تتم على مستوى الأفراد، والمجموعات، وعلاقة الأفراد والمجموعات الاجتماعية ببعضها وبالدولة وبالأفراد والمجموعات في المجتمعات الأخرى. وهذه التفاعلات تشمل مجالات متعددة، من الاقتصاد للسياسة والأمن للعلاقات الاجتماعية للفكرية والثقافية، وبالتالي ففهمها يتطلب العبور بين المعارف الاجتماعية كلها، من علم الاجتماع للدراسات السياسية لعلم الاقتصاد للدراسات الثقافية – أي يتطلب تضافر فريق من الدارسين لا شخص واحد مهما بلغ فهمه للمجتمع. ومن ثم، فأي إجابة لأي سؤال يتعلق بهذه الأمور هو – في أحسن الأحوال – افتراض أو طرح ينتظر مزيدا من الفحص والتدقيق والتعديل.

بعد كل هذه التحذيرات أقدم إجاباتي، معيدا التأكيد على كونها تقوم على تحليل ولا تشكل تنجيما كما شرحت في هذا المقال القصير، يرتبط سلامته بالافتراضات والمعطيات التي يقوم عليها. هذه الإجابات هي:

١) أن المجتمع المصري بنظمه السياسية والاقتصادية والاجتماعية قد أصبح بالفعل مجتمعا حديثا، تحولت ثقافاته التقليدية إلى موقع الدفاع في أقوى أحوالها، وإلى فولكلور في أضعفها، وإلى أحلام وحنين في معظمها – تنقلب لكوابيس مفزعة إن حاول أحد تحويلها لواقع معاش.

٢) أن العولمة تعيد صياغة جوانب هامة من الحياة الاجتماعية في مصر بما يوسع من انتصار التحديث ويعمقه وينقله لمستويات مختلفة نوعيا عن كل عمليات التحديث التي شهدتها مصر من قبل.

وسأتناول هنا الافتراض الأول (ويتناول المقال القادم الافتراض الثاني).

انتصار عمليات التحديث المصرية

لو نظرنا للأطراف المصرية فقط، للاحظنا شكل متكرر للصراع حول التحديث منذ مطلع القرن التاسع عشر وحتى نهاية القرن العشرين: أنصار التحديث ومحافظوه يتدافعون ويتقاتلون حول نوع التحديث ودرجته ومداه وما يتم الأخذ به من الجديد ومن التراث وما يتم تركه، والحكام يميلون لهذا الجانب تارة ولذلك الجانب تارة، لكنهم على الدوام ممسكين بخيط رفيع لا ينقطع مع الجميع، ومستعدين للانقضاض على أي طرف في أي وقت من أجل الحفاظ على “مصالح الدولة العليا”، أي سيطرتها على مجربات الأمور السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية. هكذا ستدفع الدولة بالتحديث – بشكل انتقائي – في عهود، وستضع فرامل عليها في عهود أخرى، ستنتصر لقيم التنوير والمعاصرة والتجديد في أوقات، وستقف مع السلفيين والمحافظين والظلاميين في أوقات أخرى، وفي هذا وذاك ستكون عينها على مصالحها: السيطرة على الرعية، تطوير قدراتها الأمنية والسياسية والاقتصادية والإدارية، والحفاظ على درجة ما من حسن السمعة.

قمع الدولة وتذبذبها بين الجانبين جعلها مكروهة من الجميع ومكروهة منهم في آن واحد. يتهمها التحديثيون برعاية بذور الإرهاب بدلا من اقتلاعها، ويتهمها المحافظون برعاية الغزو الثقافي والتغريب. وبيت كل منهم النية على الاستيلاء على الدولة من أجل إتمام مشروعه الثقافي الكبير (سواء “التنوير” الإجباري أو التطهير من “الثقافة الغربية”).

ما لا ينتبه له الكثيرون منا أن قمع الدولة وتذبذبها لم يوقف عمليات التحديث. فبرغم إصرار الدولة على مهادنة الاتجاهات المحافظة، ورغم تغلغل هذ الاتجاهات أحيانا في أجهزة الدولة نفسها، فإن التحديث تواصل في كافة المجالات الاجتماعية بما فيها المجالات الفكرية والثقافية الشائكة. تواصل التحديث لأن قوى التحديث واصلت دفعه ودعمه، رغم التوجهات المحافظة ورغم استبداد الدولة وخضوعها لهذه التوجهات. كما تواصل لأن الدولة المستبدة المتذبذبة نفسها ظلت طيلة الوقت مضطرة لدعم التحديث – ولو بشكل انتقائي – من أجل تحقيق “مصالحها الحيوية”. التحديث الانتقائي هذا يركز على المجالات الاقتصادية والعسكرية-الأمنية والإدارية، باعتبارهم أسس قوة الدولة وقدرتها على السيطرة الداخلية والخارجية. لكن في نهاية المطاف فإن كل التحديث يغذي بعضه بعضا، فتحديث الاقتصاد والجيش والأمن والإدارة يغذي التحديث الفكري والاجتماعي والثقافي مهما فعل الحاكم. لم ينجح غضب محمد علي باشا على رفاعة الطهطاوي في حصار التحديث في المجالات الاستراتيجية التي اختارها الحاكم، بل شاءت سخرية القدر أن تنهار المجالات التي حبذها الحاكم (التفوق العسكري والمادي) وتبقى تلك التي قاومها (التعليم والتحديث الاجتماعي).

وهكذا ظل الأمر عبر قرنين من التحديث: الحكام يحاولون حصر التحديث في مجال “مصالحها الحيوية”، ويبقون على توازن ما بين الاتجاهات التحديثية والمحافظة، وذلك في حدود قدرتهم على تجاهل الضغوط الدولية المحبذة للتحديث الاجتماعي والثقافي. وبرغم ذلك، يتسلل التحديث للجوانب الاجتماعية والثقافية رغم أنف الحكام ورغم مقاومة الاتجاهات المحافظة. ومع الوقت لم يعد التحديث الاجتماعي والثقافي مقصورا على النخب القديمة من سكان المدن والطبقات المرتبطة بالاقتصاد الرأسمالي وبيروقراطية الدولة، بل امتد ليشمل الطبقات الشعبية الصاعدة بما فيها أبناء الضباط المسيطرين على الدولة أنفسهم. وأصبح الجيش نفسه أداة من أدوات نشر التحديث في ربوع مصر كلها بعد أن كان قاصرا على النخب ساكنة المدن. فحين استولى الضباط الأحرار على الحكم، لم يعد عبد الناصر جموع الفلاحين باستعادة “الزمن الجميل” قبل التحديث حين كانوا يرزحون تحت وطأة السخرة والجوع والجهل والأوبئة، وانما وعدهم بتحديث ربوع مصر كلها كي تنعم الجماهير العريضة بفوائده: من الميكنة الزراعية للكهرباء للتصنيع للخدمات الطبية للتعليم الحديث للحرية والمساواة بين المواطنين جميعا.

أكثر من سبعين عام مروا على هذه النقطة: سبع حقب من تغلغل التحديث في كل مجالات الحياة المصرية. اختار أي مجال تشاء وابحث فيه عن مساحة “الثقافة التقليدية”. كيف يتم التعليم في مصر مثلا: هل نرسل أبنائنا لمدارس حديثة (أي مؤسسات تعليمية متخصصة يديرها أشخاص لا نعرف عنهم شيئا سوى أنهم مؤهلين من مؤسسات متخصصة أخرى، يتولون تلقين أطفالنا مجموعة من المعارف حددها أشخاص آخرون لا نعرفهم أيضا ومفروض أنهم مؤهلين لهذا العمل من قبل مؤسسات أخرى متخصصة، وكل هؤلاء يتلقون عائدا نقديا مقابل عملهم من منظومة بيروقراطية تقوم بأداء وظائفها هذه بشكل روتيني غير شخصي) أم أننا نعهد بالأطفال لشيخ القبيلة أو القرية أو من ينوب عنه ليتولى تعليمهم؟

هل اقتصادنا اقتصاد حديث (سواء كان رأسمالي أم مخطط، مستقل أو تابع) أم أننا نعيش في ظل اقتصاد كفاف نأكل فيه ما نزرع ونتبادل الهدايا والسلع مع العائلات الأخرى؟

هل نلجأ لشيخ القبيلة ليفصل في منازعاتنا وفقا لتقاليد آبائنا وأجدادنا أم نذهب للمحاكم ونقيم دعاوى وفقا لقوانين مكتوبة وإجراءات تنظمها قوانين أخرى؟

السؤال ليس عن درجة جودة وكفاءة مؤسساتنا. السؤال هو هل ننظم حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والأمنية وفقا لمؤسسات ونظم حديثة أم وفقا لنظم حياتنا التقليدية (التي سبقت عمليات التحديث)؟

بالطبع هناك بقايا من ثقافاتنا التقليدية، وهناك تشبث بهذه الملامح كما شرحت في هذا المقال السابق. هناك أعراف وتقاليد ومؤسسات تقليدية تلقي بظلالها على المؤسسات الحديثة وأحيانا تلونها وأحيانا تختطفها، لكنها تظل في هذا الإطار: بقايا. من يريد التركيز عليها ودراستها والتفعيص فيها فليتفضل، لكن علينا مقارنة حجمها ووزنها بحجم ووزن التفاعلات التي تتم في إطار المؤسسات الحديثة، لا تصويرها باعتبارها تقدم بدائل حقيقية للمؤسسات القائمة.

وباستثناء السلفيين وبعض التيارات الفوضوية الهامشية، فلا أحد في مصر والعالم العربي يدعو للعودة لما قبل التحديث. الجميع يطالب بتلوين التحديث بلون يناسبه: بعض الأخلاق هنا، بعض المساواة هناك، بعض التقاليد هنا، كثير من الخصوصية الثقافية هناك، وكثير من الرغي حول الهوية هنا وهناك، وحنين كثير الى ماض لا أحد يعرف شكله على وجه التحديد لكننا نلغ فيه كتعويض عن بؤس الحاضر، ثم نقوم جميعا من مجالس الكلام الفارغ ونتوجه لأعمالنا وحياتنا في أطرها الحديثة محاولين دفعها للأمام ومطالبين الدولة بمزيد من التحديث ومقارنين خيبتها الثقيلة بنجاحات الدول الحديثة.

انتصرت الحداثة وكل عام وأنتم بخير.