طفولة الليبرالية المصرية المعذبة

منذ ٢٠١١ وأنا أزعم أن الليبرالية تنتشر في مصر وستواصل الانتشار حتى تسود وتعيد صياغة وتفسير العقائد السياسية والاجتماعية الأخرى بما يتوافق ومبادئها. وأعني بالليبرالية هنا “التحرر الإنساني” الذي يضم ثلاثة مبادئ أساسية: الحرية الفردية، المساواة المطلقة في الحقوق والواجبات، ومسئولية كل انسان عن نفسه واختياراته دون وصاية من غيره. ويقوم تحليلي هذا على قراءة ترى أن تحديث المجتمع المصري – والحداثة أم التحرر الانساني وحاضنته – يتواصل ويتعمق رغم معوقاته وتناقضاته. هذا التحديث يغير بنية المجتمع وعاداته وثقافاته ورؤيته لنفسه وللعالم بشكل يدفع بالليبرالية ويساعد من يدعو إليها. بمعنى آخر، فإن عملية التحرر الجارية (أي انتشار القيم الليبرالية) ليست مجرد نتيجة لدعوات “التنوير” الآتية من النخب – فهذه الدعوات لم تنقطع عبر قرنين – بقدر ما هي نتيجة لتغيرات اجتماعية عميقة ومستمرة – وغالبا غير مقصودة. 

الفردية لا التنوير – ابنة الليبرالية وأمها

انتشار الفردية هو قاطرة الليبرالية. فكما ذكرت في هذا المقال، أدت عمليات التحديث لجعل الفرد – لا الجماعة التي ينتمي اليها – وحدة المجتمع الأساسية، وبالتالي أصبحت الحقوق والواجبات مرتبطة بالفرد أكثر مما هي مرتبطة بجماعته. كلما ترسخت الفردية، كلما ترسخت حرية كل فرد في اعتناق الآراء والمعتقدات التي تروق له، وفي اختيار أسلوب حياته الشخصية (كالمأكل والملبس والزواج والعمل والجنس)، وفي اعتناق الآراء السياسية والاجتماعية، وفي ممارسة النشاط الاقتصادي الذي (كاختيار مجال العمل وشكله). وكلما ترسخت “الجماعية” تقلصت هذه الحريات كلها لصالح واجبات الفرد إزاء الجماعة التي ينتمي اليها (سواء كانت عائلته، أو أهل الحي أو القرية أو القبيلة) حيث تنتظر الجماعة من الفرد اخضاع “حرياته” لمقتضيات دوره فيها ومسئولياته إزائها. فكر في نموذجين (نظريين): شخص يعيش في مدينة لا يعرف فيها أحدا وآخر يعيش في قريته وسط عائلته الممتدة منذ مائة سنة: كيف يقرر كل منهما اختيار الزوج أو المهنة أو العقيدة؟

وكذلك الأمر بالنسبة للمساواة. كلما ترسخت الفردية كلما انتشر مبدأ المساواة الكاملة بين الأفراد، بغض النظر عن “انتمائهم” لجماعة ما (سواء كانت جماعة عرقية أو قومية أو دينية أو طبقة اجتماعية) وبغض النظر عن “مكانتهم” وأدوارهم في هذه الجماعة (كأن يكون الشخص شيخ القبيلة أو كبير العائلة أو زوجة فلان أو ابنته)، وبغض النظر عن علاقة هذه الجماعة بتلك داخل الجماعة الأكبر (مثل علاقة بعض العائلات القبطية الصغيرة بعائلات مسلمة كبيرة في بعض قرى الصعيد).

وكذلك كلما ترسخت الفردية استقرت المسئولية الفردية، بمعنى مسئولية كل شخص عن أفعاله واختياراته ومصيره، وبمعنى رفض وصاية أو “قوامة” أحد على غيره (حتى لو كان كبير العائلة أو ما شابه).

الفردية أم الليبرالية وابنتها؛ كل منهما تقوي الأخرى بتفضيلها للحقوق والحريات الفردية، والمساواة الكاملة، والمسئولية الفردية. لهذا تعترض بعض بلدان “العالم الثالث” والصين وروسيا على منظومة حقوق الانسان الدولية وتتهمها بأنها تعكس ثقافة فردية ليبرالية مرتبطة بالغرب لا تأخذ في اعتبارها النظم الاجتماعية الأخرى التي تعلي حقوق الجماعة وواجبات الفرد إزائها. وتقوم اعتراضاتهم على أن مجتمعاتهم مكونة من جماعات كبرى لا أفراد. وأن هذه الجماعات تشكل وحدات متكاملة، كل فرد فيها يؤدي دورا محددا يرتب له حقوقا متناسقة مع واجباته ومع مكانه في الجماعة (وهي نظرة قريبة من موقف بعض الإسلاميين من قضية ميراث المرأة، باعتبار الإسلام يقدم التكامل والعدالة equity على المساواة equality داخل منظومة اجتماعية متكاملة).

وإذا نحينا جانبا الدوافع الديكتاتورية وراء معظم هذه الاعتراضات، لرأينا أنها تعكس خلافا في رؤية بنية المجتمع نفسه. فأنصار الحقوق والحريات الفردية يتبنون بالفعل نظرة فردية للمجتمع، ويعلون شأن الفرد وحقوقه على ما عداها، في حين يتبنى أنصار “التكامل” نظرة “جماعية” للمجتمع، تعلي شأن المجتمع ورفاهيته ككل على الفرد. هذا خلاف وجودي يتعلق برؤية الانسان لنفسه وللعالم، وبالتالي ليس خلافا يحسم بالمناظرات الفكرية وانما يميل الانسان لهذا أو لذاك على حسب تنشئته الفكرية والوجدانية والاجتماعية. ومن هنا أهمية قراءة تاريخ الفردية في مصر لمعرفة حجمها وحجم أنصارها، وهو في رأيي محدد أساسي لحجم جمهور الليبرالية، بمن فيهم من لا يعرفون بعد أنهم ليبراليون!

ميلاد الفردية في مصر

في مصر، مثلما في بلدان أخرى كثيرة، انتشرت الفردية كجزء من التحولات الاجتماعية الكبرى المرتبطة بعمليات التحديث. ولأن عمليات التحديث اختلفت من بلد لآخر، ومن منطقة لأخرى داخل البلد الواحد، فإن انتشار الفردية أخذ أشكالا ودرجات متفاوتة. ومن ثم يحسن بنا النظر للفردية والجماعية باعتبارهما طريقتين لتنظيم المجتمع تتداخلان بدرجات وأشكال مختلفة. فليس هناك مجتمع فردي تماما ولا جماعي تماما، بل يضم كل مجتمع هذا على ذاك (اللهم إلا بعض الجماعات الصغيرة التي يهتم بها دارسو الانثروبولوجيا). الذي يهمنا في مصر هو فهم منابع الفردية والجماعية (أي التحولات التي تقوي وتضعف كليهما) ودورهما في تقوية واضعاف الليبرالية.

هناك أربع منابع كبرى ساعدت في ولادة الفردية في مصر وأثرت على تطورها. أولها هي التحولات الاقتصادية الكبرى التي رافقت عمليات التحديث مثل ظهور الصناعة وتقلص أهمية الزراعة كمورد للدخل، وانتشار التوظيف على أساس فردي بما في ذلك في قطاع الزراعة، وتوسع اقتصاد السوق على حساب الأنماط الاقتصادية السابقة عليه. وثانيها هي التحولات الاجتماعية الحديثة مثل زيادة عدد سكان المدن والتوسع في التعليم الحديث (وربطه بالتوظيف) وتعليم المرأة وخروجها للحياة الاجتماعية والعمل، وانفتاح فرص الترقي الاجتماعي للطبقات والمجموعات غير الحاكمة بغض النظر عن الانتماءات العائلية والقبلية. وثالث منابع الفردية التحولات القانونية والإدارية والسياسية المرتبطة ببناء الدولة الحديثة، مثل تعديل قوانين الإرث ليكون بالتساوي بين الأبناء الذكور (بدلا من توريث أكبر الإخوة) وما نتج عنه من تفتيت للملكيات الزراعية، وتعديل قوانين العمل والتوسع في المحاكم (وبالتالي في تطبيق مبدأ المسئولية الفردية)، وادخال نظام التجنيد وبقية منظومة واجبات وحقوق المواطنة الفردية.

رابع هذه المنابع هو التحول في الوجدان. ركز الكثيرون على دور البعثات التي أرسلها محمد علي لأوروبا، والتي أسفرت عن ظهور الليبراليين الأوائل مثل رفاعة الطهطاوي وعن دورهم “التنويري” في “نشر” قيم الحداثة وأفكارها. لكن هناك جانب أكثر أهمية في رأيي، وهو تسلل الحداثة الى وجدان الأغلبية في مصر. فمع انتشار القراءة والكتابة والتعليم وظهور الصحف والروايات ثم السينما والراديو والتليفزيون، تغيرت مصادر التأثير على تشكيل وجدان الناس. فبدلا من اقتصارها على ممثلي السلطة في مجتمعها المحلي (غالبا العائلة والقرية) انفتح وجدان المصري لتلقي مؤثرات من مصادر أخرى عديدة، ليس فقط من خارج مجتمعه المحلي، بل أيضا خارج المرجعية الثقافية لسلطات هذا المجتمع المحلي. وهكذا، دخلت مئات الروايات والمقالات والكتب والأفلام الى وجدان المصريين أينما وجدوا، بما تحمله من خيال مختلف، وأحلام ورغبات وطموحات فردية، وصور اجتماعية وسياسية مغايرة لواقعها المباشر. وكلما انتشرت هذه الوسائل في مصر كلما زادت فرص التغير في وجدان الأغلبية، بما في ذلك أبناء المجموعات محدودة الدخل التي تعيش في أقاصي الريف أو الصعيد أو سيناء والتي تصنف عادة باعتبارها مخزن الثقافات التقليدية.

غذت هذه المنابع الأربعة فطام الفرد عن الجماعة الأكبر التي ينتمي اليها، وقوت شعوره بالاستقلال والمسئولية عن نفسه ورغبته في اتخاذ قرارات حياته وفقا لتفضيلاته. غذت الفردية بدرجات وقوة مختلفة حسب المكان والزمان، ودون قصد أو تخطيط.

أعداء الفردية

لكن نفس هذه المنابع الأربعة أدت في نفس الوقت لتحولات أخرى في الاتجاه المعاكس.

فقد أدى استبداد الدولة وسيطرتها على عمليات التحديث للحفاظ على دور العائلات والقبائل وما شابهها، وإبطاء التحول للفردية وتقليل حدته. فسعيا من هذه الجماعات للحفاظ على دورها و”تحمل مسئولياتها” إزاء أعضائها، سعت للعب دور الوسيط بين أعضائها وبين الدولة. ووجدت الدولة ان الاستجابة لها – في أحيان كثيرة – أسهل بكثير من تجاوزها، سواء في المسائل السياسية أو حتى في إنفاذ القانون وحفظ الأمن العام. وفي أحيان كثيرة أصبح المتنفذين في الدولة – سواء المنتخبون مثل أعضاء البرلمان أو المعينون مثل الوزراء وكبار الموظفين – ممثلين لجماعات وعائلات بعينها، يسعون لحل مشاكلهم وتوفير الوظائف لهم إضافة لتوفير خدمات التعليم والصحة والمواصلات لمجتمعاتهم. وبما إن أولوية الدولة هي الاستقرار، لم يكن للقائمين عليها حافز يدفعهم لتجاوز العائلات (أو القبائل أو غيرها) لصالح المواطنة الفردية. بل انحازت الدولة ضد ممارسة الأفراد لحرياتهم إن اصطدمت بمتطلبات “جماعاتهم”، مثلما يحدث بشكل دوري في موضوعات الزواج المختلط وتغيير الديانة في الصعيد.

من ناحية أخرى، أدت سيطرة الدولة على الاقتصاد وعجزها في نفس الوقت عن الوفاء باحتياجات المجتمع الاقتصادية (بل وعن الوفاء بحاجات موظفيها أنفسهم) لاستمرار اعتماد الأفراد على جماعاتهم الأكبر في الوفاء باحتياجاتهم، ابتداء من استخدامهم كواسطة للتوظيف في أماكن ملائمة، أو كشبكة أمان تقي من تقلبات سوق العمل أو تساعدهم على بدء حياتهم، أو امدادهم برأس المال اللازم، وانتهاء بإدماجهم في مشروعات اقتصادية عائلية.

وكذلك أدت عشوائية التوسع العمراني المكثف (وهو نفسه نتيجة مباشرة لسياسات الدولة الاقتصادية والاجتماعية بما فيها سياسة التعليم العالي) إلى نوع من “ترييف المدن”، بحيث لم تعد المدينة بالضرورة مركزا ينقل سكانه للحياة الفردية الحديثة وانما أصبحت أحياء كثيرة – وأحيانا مدنا كاملة – تشكل امتدادا عمليا للريف بتقاليده ونظمه الاجتماعية المعادية للفردية.

وفي المجال الثقافي استخدمت القوى المعادية للفردية نفس وسائلها في الدفاع عن القيم والأدوار “التقليدية” (أي المتوافقة مع قيم الجماعية وتراتبيتها وواجبات الفرد ازائها). وهكذا أصبحت مناهج التعليم والكتب والروايات والصحف والأفلام والبرامج الاذاعية والتليفزيونية والمسلسلات وغيرها ساحة للصراع بين قيم الفردية (الحقوق والحريات والمسئولية الفردية) وبين القيم التي تحث على احترام الجماعة وحقوقها وتراتبياتها وواجبات الفرد إزائها (قارن مثلا فيلم “الأرض” ليوسف شاهين بفيلم “جري الوحوش” لعلي عبد الخالق، أو القيم التي تعكسها أدوار المرأة في روايات نجيب محفوظ واحسان عبدالقدوس). أحيانا تميل الكفة لصالح أنصار الفردية وأحيانا تميل لصالح أعدائها، ودائما تتدخل النخبة الحاكمة لمساندة هذا الطرف أو ذاك (لأسبابها الخاصة).

نتج عن هذه التفاعلات المعقدة ولادة الفردية ونموها مع استمرار قوة القيم المرتبطة بالجماعية؛ مثل التراتبية بدلا من المساواة، والالتزام بالواجب الاجتماعي بدلا من الحرية الفردية، و”واجب” التوجيه و”التقويم” بدلا من مسئولية كل فرد عن حياته. ومع استمرار هذه القيم، استمرت سلطة الجماعات الكبيرة (العائلة، القبيلة، وما شابهها) على الأفراد، ليس فقط من باب “العيب” وادانة غير الملتزمين “بالقواعد الاجتماعية”، وإنما أيضا من باب السيطرة المباشرة على حياة الفرد. فمن يختار تفضيلاته الشخصية – حين تتعارض مع “القواعد الاجتماعية” – سيواجه ليس فقط بالاستنكار من المقربين له وإنما أيضا بالحرمان من الضمانات التي تقدمها العائلة (أو القبيلة وما شابهها) له وبنبذ الآخرين له باعتبار أن من لا خير له في أهله لا خير له في أحد، بل وبشعور داخلي بالذنب والتقصير آت من تسلل قيم الجماعية لتنشئته النفسية.

عذاب الفردية ونعيمها

لم تنتصر الفردية ولم تخسر في صراعها مع خصومها، بل ظل كل طرف حاضرا بدرجة كافية من القوة للحيلولة دون تسيد الطرف الآخر. لا يعني هذا أن هناك قسم من المجتمع تحول لأفراد بينما ظل القسم الآخر منخرطا في جماعات، وانما يعني اختلاط الفردية بالجماعية بشكل عام، لدى معظم الناس، بدرجات متفاوتة، من مكان لآخر (الريف – الحضر، الوجه البحري أو سيناء أو الصعيد)، ومن قطاع لآخر (فيمكن للفرد أن يتصرف كفرد في حياته الشخصية وكعضو في جماعة في حياته العامة، أو العكس)، ومن وقت لآخر (فيمكن للفرد أن يتصرف كفرد في المدينة حيث يعيش، ثم كعضو في العائلة أو القبيلة حين يعود لمسقط رأسه). بل ان نفس الشخص قد يتصرف بشكل “فردي” (أي بشكل متسق مع قيم الحرية والمسئولية الفردية والمساواة) في موضوعات معينة، وفجأة يتصرف بشكل معاكس تماما (أي وفق قيم الالتزام بالواجب الاجتماعي والتراتبية و”القوامة”) في موضوعات أخرى. ولا يخفى على أحد أن هذا هو أيضا حال المبادئ الليبرالية في مصر.

لكن كل هذا تغير مع فقدان الدولة لدورها القيادي لعمليات التحديث. صحيح أنها لم تحتكر قيادة عمليات التحديث يوما، بل تشاركت فيه مع شبكة من التفاعلات الدولية التي تشمل حكومات وشركات وجماعات وأفراد، لكن دور الدولة في قيادة وتحديد مسار التحديث في مصر قد انحسر بشكل كبير ومتزايد منذ ١٩٧٥. وهو ما أثر بالتبعية على مسار الفردية – والليبرالية – في مصر.