عن الفرق بين التحليل والتنجيم

أريد الإشارة لثلاث ملاحظات مبدئية حول تحليلي (وتحليل غيري) للواقع المصري واستشراف مستقبله.

أولا، ربما يكون هناك فعلا أناس يكشف الله عنهم حجاب الزمن و”يريهم” المستقبل، وربما يكون هناك من يقرأون الطالع في الرمل أو الودع أو النجوم أو غيرها. لكن كل هذا يختلف عن دراسة وتحليل واقع المجتمع وقراءة اتجاهاته واستشراف ما يتغير منه وما يستمر في المستقبل.

تعتمد صحة تنبؤات الوسيط الروحاني على أمور لا علم لنا بها، ومن ثم فنحن إما نصدقه أو نكذبه. أما الكاتب والدارس فتعتمد صحة تنبؤاته على أمور يمكننا التحقق منها، مثل صحة قراءته لهذا الواقع، وسلامة الافتراضات التي يبني عليها تحليله، وعدم إغفاله لاتجاهات أو وقائع هامة تؤثر على فهمه للمجتمع. كذلك إن تغيرت المسوغات والأسباب التي قام عليها التحليل، أو ظهرت معلومات تعدل من هذه المسوغات، من المنطقي أن يتغير التحليل نفسه.

وبديهي أن أي كاتب أو دارس لا يمكنه الالمام بكل جوانب الواقع الذي يدرسه. فكل منا مثل الكاميرا التي تصور “الواقع” من حولها؛ كل ما نفلح في التقاطه هو لقطات، ومقابل كل لقطة نصورها هناك عشرات اللقطات الأخرى الممكنة التي نهملها. أحيانا نركز بؤرة الاهتمام على حدث ونهمل غيره، ويتبين بعد فترة أن ما أهملناه لعب دورا أهم مما ركزنا عليه. وكل هذا إضافة للسهو والخطأ. هذا حال البشر جميعا، ومهما كان الكاتب حريصا ومهما بلغت حكمته لا بد أن يغفل أمورا ويضخم أمور، ولابد لمشاعره وأماله وإحباطاته – وحتى لمصلحته – من أن تؤثر على رؤيته وتحليله.

ثانيا، في دراسة الظواهر الاجتماعية كلها يوجد جانب لا يمكن فهمه أو التنبؤ به بدقة، وهو رد فعل الناس على الظروف المحيطة بهم. فالناس لا يستجيبون بنفس الطريقة لما يدور حولهم. فعلى سبيل المثال قد تدفع الابتكارات والظواهر الجديدة البعض للانخراط فيها وتدفع البعض الآخر للانكفاء على ما يعرفه. حين رأى مشايخ الأزهر مظاهر العلم الحديث في “المجمع العلمي” (الذي احضره نابليون لمصر مع حملته العسكرية) استحسنها الجبرتي وبعض زملاؤه ورأوا فيها ميادينا ينبغي للمسلمين تعلمها، واستنكرها آخرون لا يقلون عنهم علما وورعا وسخروا منها ومن أصحابها. مثال آخر، حين تقمع قوات الأمن احتجاجا شعبيا ما، أحيانا يثبط هذا القمع عزيمة الناس ويخيفهم فينصرفوا عن الاحتجاج، وأحيانا يلهب مشاعرهم أكثر ويدفعهم للنزول للشوارع وتحدي القمع، وأحيانا يخيفهم لأسبوع أو شهر ثم ينفجرون بعدها بسب حادث آخر عارض.

حتى في الاقتصاد، يفترض الاقتصاديون عادة أن توفر طلب على سلعة أو خدمة في مجتمع ما، مع توفر رأس المال والقدرة الإنتاجية سيدفع بشخص أو أكثر لإنتاج هذه السلعة أو الخدمة. افتراض معقول، لكن وارد ألا يقوم أحد داخل هذا المجتمع بإنتاجها، إما لأن أحدا لا يرى هذه الفرصة، أو لا يراها باعتبارها فرصة وإنما باعتبارها مشكلة، أو لتصور الناس أن القيود القائمة تحول دون نجاحهم، أو لتفضيل الناس لما اعتادوا على المغامرة والمبادرة، أو بسبب الكسل، أو لأي سبب آخر.

هل يمكن التنبؤ بأي من هذا؟ ليس بشكل دقيق؛ يمكن فقط استخلاص خطوط عامة، لكن رد فعل الناس لحظة الحدث قد يختلف وبشكل كلي. فهناك عوامل لا يمكن حصرها تؤثر في قرارات الناس ورد فعلها، ومن ثم فأي “تنبؤ” يقوم على افتراض تصرف الناس عند نقطة ما حول التصرف المتوسط، لكن هذا في حد ذاته افتراض قد يتحقق وقد لا يتحقق.

وثالثا، في ضوء النقطتين السابقتين، هناك قاعدة مفيدة يطبقها الدارسين في التعامل مع تحليلات غيرهم اسمها “مبدأ الإحسان”، وتقضي بأن يحسن القارئ للكاتب الذي يقرأ له. فلا يفترض فيه الغباء والجهل التام، ولا يفسر كلامه أسوأ التفسيرات الممكنة أو يأخذ أكثر صوره تطرفا ثم يهاجم هذه الصورة المتطرفة، وأن يميز بين النقاط الرئيسية والنقاط الهامشية، فلا يهدر الرئيسي بسبب اختلافه مع الهامشي، الخ. الهدف من هذا المبدأ ليس الاحسان فعليا للكاتب، وإنما تشجيع القارئ على الاستفادة من التحليل الذي يقرأه بأكبر قدر ممكن.

وبناء عليه، حين أقول ان العسكريين سيضطرون لتسليم السلطة تحت وطأة عجزهم عن مواكبة مطالب المجتمع، أو أن المصريين لن يقبلوا بعودة الحكم العسكري، أو أن الليبرالية ستنتصر، أو أي من هذه “التنبؤات”، فإني أبني هذه المزاعم على افتراضات – عادة أوضحها بشكل مباشر؛ مثل تغير ثقافة الشعب، أو وجود قوى ثائرة ضد الاستبداد وعازمة على مقاومة عودته، الخ. وعلى القارئ الحصيف أن ينظر في هذه الأسباب والافتراضات ويقرر موقفه من “تنبؤاتي” بناء على تقييمه لدقة وسلامة هذه الافتراضات والأسباب. فإن تبين أن هذه الأسباب غير سليمة (بمعنى ان الشعب لم يتغير، أو أن القوى الديمقراطية أضعف مما أصورها عليه) أو طرأ على الأسباب ما يعدلها (من قبيل ان الشعب تغير فعلا لكنه فقد الأمل في البديل فعاد لما يعرفه) أو تغير رد فعل الناس بلا سبب معروف (مثل تفتت القوى الثورية واعلانها الهزيمة والانسحاب قبل المواجهة) لتغيرت النتيجة.

هذه هي أبجديات التحليل في العلوم الاجتماعية كلها. ومن ثم ضرورة توضيحي لهذه القراءة وللافتراضات المتعلقة بها بحيث يقيم القارئ تحليلي – وتحليل غيري – بشكل دقيق لا بشكل انطباعي. وفي كل الأحوال أنصح القارئ بالتمهل وعدم القفز لتأييد أو دحض الأفكار، فلا هذا ولا ذاك يفيد في تحسبن فهمنا لواقعنا ولفرص التغيير فيه. وإنما الذي يفيد في ذلك هو البناء على القراءة المطروحة عليه بالفحص – بالحذف والإضافة والتبديل – بحيث يجعلها أكثر قربا من الواقع الذي نحاول فهمه (وتغييره).

وأعود لمستقبل الليبرالية يوم السبت القادم.