لماذا يحتمي الليبراليون بالدولة رغم استبدادها؟

هل لأنهم منافقون يدعون الديمقراطية وهي منهم براء؟ هل لأنهم ساقطون أخلاقيا؟ هل لخوفهم من  الإسلام؟ أم أن هناك تفسيرات سياسية واجتماعية لهذا السلوك المتكرر عبر مئتي عام من الليبرالية المصرية؟

بداية، لنتذكر الفارق الرئيسي بين الحكم على سلوك الناس وبين تحليل وفهم هذا السلوك. إن كان هدفك الحكم على مجموعة أو سلوكها فتفضل، لا تحتاج تحليل ولا يحزنون. يمكنك ببساطة التعبير عن مشاعرك وقيمك: هذا ساقط أخلاقيا، وهذا يسعى لدور، وهذا خائن، وهذا منبطح، وهذا بطل صامد، وهذا زائف الوعي، الى آخر هذه النعوت التي نسبغها على بعض في كرم لا نحسد عليه. لكن إطلاق الأحكام الأخلاقية على الناس وسلوكها لا يساعد في فهمهم أو فهم سلوكهم. كل ما يؤدي اليه هو التنفيس عن المشاعر وطمأنة النفس على سموها الأخلاقي. أما تفسير السلوك فأمر آخر تماما: التفسير هو محاولة معرفة مصادر السلوك وأسبابه، وبالتالي التعرف على إمكانيات تغيره. وهذا ما أحاول فعله هنا.

من لم الشامي على المغربي؟

ما الذي جمع الليبراليين، أصحاب أيديولوجية الحرية الفردية، على الدولة المستبدة؟ لفهم هذه العلاقة الغريبة أعود إلى تاريخ الليبرالية والتحديث في مصر. قلت في هذا المقال السابق أن الليبرالية ابنة التحديث وايديولوجيته الحاكمة، وشرحت علاقتها بعمليات التحديث خاصة التحول للفردية وللتفكير العقلاني. وفي هذا المقال تعرضت للتفسيرات السائدة لفشل الليبرالية في مصر وقصور تفسيرات التي تركز على “خيبة النخبة” أو على “تشوهات الحداثة” المصرية، وخلصت إلى أن الحداثة المصرية لا يمكن فهمها من خلال قياسها على “الحداثة الغربية” وإنما من خلال فهم خصوصية مسارها؛ وتحديدا كيفية تصارع قوى المجتمع المصري حول التحديث، وقوة وخصائص كل قوة، والمصالح والرؤى التي تتصارع حولها، وخصائص المسار الذي تجري فيه، وهذا ما سأوضحه هنا.

الذي قاد التحديث المصري هو حكام الدولة المستبدة، وذلك في غياب أي قوة اجتماعية أو سياسية مستقلة عنه سيطرتهم (راجع مقالي السابق عن هذا الجانب). وكي يتمكن الحكام من تنفيذ هذا المشروع كان عليهم فرض سيطرة الدولة على الجميع بشكل مستمر. فعمليات التحديث ليست سهلة وعادة ما تثير المقاومة. الحالة المشهورة هي مقاومة المماليك للتحديث العسكري، والتي استمرت لعقود (قبل وبعد مذبحة القلعة). لكن التحديث الاقتصادي والقانوني والإداري والثقافي أيضا أثاروا مقاومة واستدعوا استخدام القوة (أو التهديد بها) من قبل الدولة حاملة لواء التحديث. إن فقد الحاكم سيطرته، إن تآكلت قدرته على فرض التغييرات التي يريدها لانهارت أو تراجعت عملية التحديث وراح هو ضحيتها (مثلما حدث لسلاطين الدولة العثمانية في القرن الثامن عشر).

قاد الحكام إذا عملية التحديث وفي ذهنهم أولوية السيطرة، ورتبوا أولوياته وفقا لمقتضيات هذه السيطرة. ومن ثم كان لتحديث الجيش والاقتصاد وأجهزة الدولة الأولوية دائما على جوانب التحديث الثقافية والاجتماعية. دفعوا التحديث الاجتماعي والثقافي حين خدم الجوانب المادية للتحديث (الاقتصاد والجيش والإدارة) وباعتباره يساعد في الحصول على قبول الدول الغربية لهم. لكنهم قمعوا التحديث الاجتماعي والثقافي حين شعروا بأنه يهدد سيطرتهم على الحكم؛ سواء بما يثيره من سخط بين السكان المحافظين أو ما ينشره من أفكار تحررية تتحدى سيطرتهم. أفضل الأمثلة على ذلك هي رعاية وتبني محمد علي لرفاعة الطهطاوي، بشرط عدم تجاوزه للحدود التي يرسمها له الوالي. وحين تجاوزه، أو ظن محمد علي أنه تجاوزه، قمع الطهطاوي، لكنه لم يقض عليه. وهكذا مع الجميع؛ قمع الحكام التحديث الاجتماعي والسياسي لكنهم لم يقضوا عليه، وسمحوا به وشجعوه لكن داخل حدود لا تفقدهم السيطرة: وظلت الموازنة بين هذا وذاك إحدى مهام الحكم الأساسية في مصر منذ محمد علي وحتى اليوم.

ليبراليون ضد الاستبداد

في القرن التاسع عشر تحالفت النخب الليبرالية الوليدة مع الحاكم رغم استبداده لأنه كان قائد التحديث، وأبدوا استعداد للتضحية بالحريات وبالأفكار الديمقراطية على أساس أن “الشعب غير جاهز للديمقراطية”، ومن باب أولوية تحديث البلاد وتعليم الشعب قبل منحه حريته.

لكن مع تنامي قوة النخب الليبرالية في أوائل القرن العشرين، وضعف الحاكم المستبد نتيجة الوجود البريطاني في مصر، استقل أغلبية الليبراليين عن الحاكم، وحاولوا مواجهته ومواجهة البريطانيين معا، استنادا للشعب ومشاعره القومية ومطالبه التنموية. نفع هذا مع الوفد، لكن ليبراليين آخرين اختاروا التحالف مع القصر أو مع البريطانيين (أيضا لنفس الأسباب: أولوية تحديث البلاد وتعليم الشعب).

مع استيلاء الجيش على الحكم في ١٩٥٢ وخروج البريطانيين وتزعم الضباط للمشاعر الوطنية واستخدامها لقمع النخب الليبرالية ومن يساندها، أصبح حكام الدولة في موضع قوة شبه مطلقة مثلما كان الوضع أيام محمد علي وسحقوا النخب الليبرالية – مرة باسم معاداة الاستعمار ومرة باسم الاشتراكية ومرة باسم التقاليد الدينية، وظل الوضع هكذا حتى ٢٠١١.

لماذا لم يحاول الليبراليون تعبئة الشعب خلف برنامج تحرري؟

لنفس السبب الذي منع معظم اليساريين والقوميين من تعبئة الأغلبية، وهو أنهم أصحاب رؤية راديكالية تسعى لتغيير الواقع والثقافة السائدة، أي تسعى “لتغيير المجتمع” كي يتوافق مع رؤيتها. ومن ثم لا يمكن توقع حصولهم على تأييد الأغلبية – لأن رؤى الأغلبية هي ما يريد الليبراليون تغييره. حجم الجمهور المحتمل للاستجابة لهذه الرؤية ليس حجم السكان، بل المجموعات المستفيدة من التحديث والمرتبطة به، أما البقية فخارج الشبكة بالكامل (أما تفضل البعد عن السياسة وتتبنى رؤى محافظة أو تنساق لدعوات الإسلام السياسي).

المشكلة أن القوى الاجتماعية المستفيدة من التحديث والمرتبطة به (التجار والصناعيين وعائلاتهم، نخب الدولة وعائلاتهم، الأقليات والنخب الجديدة) وجدت مصلحتها في الانضواء تحت جناح الدولة  لا في مواجهتها. ينطبق ذلك على المصالح الاقتصادية كما ينطبق على توفير الحماية لها من الأغلبية الفقيرة المحافظة التي تخيفها.

وهكذا، لم يبق لليبراليين مصدر قوة يصدون به الاستبداد حين يأتيهم. بل لم يبق في الساحة الليبرالية سوى حفنة من المفكرين وأصحاب الرأي، بلا قوة تحول أفكارهم لضغوط سياسية. تضاءلت الليبرالية حتى عادت كما بدأت: أفكارا يدعوا لها أشخاص بالعقل والمنطق، لكن لا قدرة لهم على فرضها أو الدفاع عنها إلا لماما. وفي ظل هذا الضعف، عاد معظم الليبراليون للالتصاق بالدولة المستبدة على أمل استخدام قوتها لإعادة تربية وتأهيل الشعب (نظرية لنبدأ بالتعليم)، أو التأثير في سياسات حكامها بالنصح والاقناع (نظرية الإصلاح من الداخل)، أو السعي للعمل في ظل حمايتها (نظرية التنوير). من بقي بعيدا عن الدولة اختار العزلة والكتابة في الهواء على أمل أن يلتقط قراء أبرياء فيروس الليبرالية من كتاباتهم.

لكن هذا الوضع تغير منذ مطلع الألفية الثانية، ولهذا يمكن – في رأيي – نجاح الليبراليين في بناء قوة سياسية مستقلة دون التحالف مع قوى مناوئة ودون التصاق بالدولة المستبدة.