لماذا تنتصر الليبرالية على منافسيها؟


لم تنتصر الليبرالية لحلاوتها أو لسمو قيمها. لم تنتصر لأن الناس قرأت جون لوك أو جون ستيوارت مل أو جان جاك روسو  فآمنت بأفكارهم، وإنما لأن المجتمعات شهدت تحولات مكنت هذه الأفكار ودفعتها للانتشار. هذه التحولات، المعروفة بـالحداثة أو التحديث، تشمل أربع عمليات رئيسية من التغير الاجتماعي المستمر: قيام الدولة القومية البيروقراطية، توسع الرأسمالية واقتصاد السوق، تحول المجتمعات إلى الفردية، وتقلص سلطة الدين على التفكير. الحداثة بهذا المعنى ليست شيئا واحدا أو جامدا، بل تغيرات اجتماعية مركبة ومتواصلة، وتختلف من مجتمع لمجتمع حسب ظروفه.

عمليات التحديث هذه ليست تغيرات هادئة سلسلة، وانما أتت وسط صراع وتفسخ اجتماعي وثقافي وسياسي واقتصادي. قادتها فئات وأيدتها فئات وعارضتها فئات – بدرجات متباينة. ومن وسط هذا الصراع والتفسخ خرجت الأيديولوجيات الحديثة كلها، من الليبرالية إلى الماركسية والفاشية إلى العدمية والفوضوية وانتهاء بالأصوليات الدينية. لكن ما يميز الليبرالية عن غيرها أنها الإيديولوجية الحاكمة للحداثة؛ هي التي تسير التغييرات الاجتماعية الحديثة وتدير صراعاتها وتتفاعل مع تغيراتها وتصبغها بالشرعية، في حين أن الإيديولوجيات الأخرى كلها إيديولوجيات معارضة، تسعى لكبح التحديث أو تغيير مساره أو تجاوزه كلية. الليبرالية لا تسعى لأي من هذا: بل تهدف لتسيير الحداثة وحل أو إدارة صراعاتها.

الذي أعطى الليبرالية هذا الدور، الذي جعلها الإيديولوجية المهيمنة، أمران أساسيان: الأول هو اشتراكها مع تحولات الحداثة في عدد من مسلماتها وأسسها، والثاني هو قدرتها على التوافق مع مصالح الفئات القائدة لهذه الحداثة وضحاياها في ذات الوقت.

ماذا يجمع الليبرالية والحداثة؟

أهم المشتركات بين الليبرالية وعمليات التحديث هي “الفردية”. التغيرات الاجتماعية الحديثة كلها تدفع باتجاه جعل الفرد وحدة المجتمع الأساسية وتفتيت الوحدات الأكبر (كالأسرة الممتدة أو القرية أو القبيلة أو الجماعات العرقية أو الدينية). اقتصاديا، يحول النظام الرأسمالي علاقة العمل إلى شأن فردي، على عكس النظم السابقة عليه حيث كان العمل منظومة تنخرط فيها عائلات وأحيانا عشائر أو قرى بأكملها. مع ترسخ الرأسمالية، يتحول التوظيف لمسألة فردية: صاحب المال يدفع مرتب للأجير، دون التزام إزاء بقية جماعته. سياسيا، تتحول علاقات الولاء والحماية بين الناس والحاكم إلى علاقات مواطنة تربط كل فرد بالدولة في شبكة واجبات وحقوق، بغض النظر عن العائلة والقبيلة وما شابه ذلك. اجتماعيا، تنفك عرى العائلات الممتدة والقبائل والقرى والجماعات العرقية والدينية وتصبح العائلة الصغيرة (النووية) الإطار السائد للحياة الاجتماعية (وتواصل التغير باتجاه العائلة الأحادية حيث يوجد فرد واحد بالغ). وفكريا، تتقلص سطوة الأديان والتفكير الميتافيزيقي لصالح النزعة الإنسانية الفردية (مرة أخرى: ليست هذه التحولات كاملة ولا جامدة ولا متماثلة في كل المجتمعات).

إعلاء الليبرالية لمبادئ الحرية الفردية، والمساواة بين الأفراد، والمسئولية الفردية هو المكمل – أو الغطاء – الإيديولوجي لهذه التحولات الاجتماعية.

الحرية الفردية تعني حرية كل فرد في اعتناق الآراء والمعتقدات التي تروق له، في اختيار أسلوب الحياة الذي يريده، سواء تعلق ذلك بالأمور الشخصية كالمأكل والملبس والزواج والعمل والجنس، أو بالأمور العامة كالآراء السياسية والاجتماعية، أو بالنشاط الاقتصادي كاختيار مجال العمل وشكله.

ويرتبط بذلك مبدأ المساواة الكاملة بين الأفراد، بغض النظر عن النوع (رجل، امرأة، أجناس أخرى)، أو الدين (سواء أتباع ديانات سماوية أو أرضية أو ملحدين أو غير مهتمين)، أو الأصل الاجتماعي أو العرقي أو القومي، الخ.

المسئولية الفردية تعني ألا وصاية لأحد على غيره (مالم يكن قاصرا). لا رب العائلة مسئول قانونا عن أفرادها، ولا شيخ القبيلة مسئول عن أفعال أفرادها، ولا أمير البلد مسئول عن تصرفات سكانها، ومن هنا تحريم العقاب الجماعي وتحريم تعيين البعض أنفسهم أوصياء على غيرهم: فلا أحد يعاقب علي فعل ارتكبه غيره (ولو كان أقرب الناس له) ولا أحد يحق له فرض اختيار على غيره أو منع غيره من اختيار يريده (فهذا دور السلطات العامة التي تنظم حريات الجميع).

وطبعا هذه مباديء، يختلف تعريفها وتطبيقها من وقت لآخر ومن مجتمع لآخر. تماما مثلما تتغير وتتطور التغيرات الاجتماعية المسماة بالحداثة وتأخذ أشكال مختلفة من مجتمع لآخر.

الليبرالية المرنة، أو مهرجان الأمل للجميع

وبالإضافة لتوافق الليبرالية مع التحديث في جعل الفرد الوحدة الرئيسية للمجتمع، فقد وفرت الليبرالية للقوى الاجتماعية الحديثة (الرأسماليون، قادة الدول، قادة الحركات الاجتماعية) إطارا مناسبا للدفاع عن مصالحهم ورؤاهم وأعطتهم الأمل في النجاح يوما ما في الانتصار على خصومهم. 

الرأسماليون وجدوا في الليبرالية أيديولوجية تسمح لهم بالنمو والتوسع وتوفر لهم غطاء من الشرعية والتمويه على استغلال الغير. شكلت الليبرالية سلاحا قويا لتحطيم المجتمع التقليدي والقيود التي يفرضها على التوسع الرأسمالي، كما سمحت لأصحاب العمل بالتخلص من مسئولية عائلات العمال (على عكس النظام الاقطاعي مثلا) وبالتالي تقليل تكلفة العمل، وأعطت الرأسماليين فرصة لتبوء مكانة اجتماعية لم يكن من الممكن أن يصلوها في ظل المجتمعات التقليدية القائمة على “نبل الأصل”. ووفر مبدأ المساواة أمام القانون غطاءً شرعيا لإلهاء الأغلبية عن عدم المساواة الفعلي الذي يعيشونه. ومن ثم تبنى الرأسماليون الليبرالية وامتطوها، وسعوا للسيطرة على تعريف وتطبيق مباديء الحرية والمساواة والمسئولية الفردية بشكل يخدم مصالحهم الخاصة.

أيضا تقبل قادة الدول الإيديولوجية الليبرالية، ولو على مضض وبشكل انتقائي. فقد استفادوا من تحطيم أشكال التضامن الاجتماعي التقليدية وصعود الفردية، الأمر الذي ربط هوية المواطنين بالدولة (وحكامها) ووضعهم تحت رحمتها بشكل مباشر دون وسطاء، ووفر أعدادا هائلة تصلح للخدمة في جيوشهم وبالمجان تقريبا – دفاعا عن “الحدود المقدسة” التي اخترعوها اختراعا. استفاد قادة الدول من صعود الرأسماليين – المعتمدين على سلطتهم والممولين لهم، كما استفادوا من انهيار الكتل الاجتماعية القديمة – باستقلالها وتنمرها أحيانا. وفي نفس الوقت حاربوا تطبيق مباديء المساواة والحرية قدر استطاعتهم وتحالفوا مع الرأسماليين لتضييق تعريفها. 

الليبرالية التي خدمت مصالح الرأسماليين وقادة الدولة القومية وفرت أيضا أساسا سياسيا وفكريا واجتماعيا للحركات الاجتماعية الساعية لمقاومة التحديث أو السيطرة على نتائجه المدمرة لمصالحهم ورؤاهم. وهكذا انخرطت في السياسة الليبرالية حركات عمالية ونسائية وعرقية وقومية إصلاحية تهدف لتوسيع مفاهيم الحرية والمساواة وتحويلها لواقع. بل أكثر من ذلك، وفرت الليبرالية أيضا منصة لمنافسيها للدفاع عن رؤاهم (بسبب ادعاءها دعم الحرية والمساواة بشكل مطلق). وهكذا انخرط أغلبية اليساريين والفاشيين والأصوليين والفوضويين في السياسة الليبرالية على أمل استخدامها للوصول للسلطة وازاحتها. نجح هؤلاء المنافسون في إدخال تعديلات هامة في تعريف وتطبيق المساواة والحرية والحقوق، لكنهم لم ينجحوا في خلع الليبرالية من سدة الحكم أو في تجاوز الحداثة بتعبيراتها السياسية (الدولة القومية البيروقراطية) والاقتصادية (السوق الرأسمالي) والاجتماعية (الفردية) والفكرية (النزعة الإنسانية). وحتى حين استولت بعض هذه الحركات المعارضة على الحكم، مثلما حدث في ايطاليا واسبانيا الفاشية وفي المانيا النازية، انتهى بها الأمر لتعميق عمليات التحديث أكثر، ثم انهارت تاركة قيادة مجتمعاتها لنظم ليبرالية. باختصار، استفادت الليبرالية من صراعات مؤيديها ومعارضيها، ومن خلال هذا الصراع تطورت تغيرات الحداثة الاجتماعية (الدولة القومية والرأسمالية والفردية والنزعات الإنسانية) وتطور معها مفهوم الحرية والمساواة والمسؤلية الفردية.

باختصار، انتصرت الليبرالية لأنها متوافقة مع حركة الحداثة ومنطقها، ولأنها تعطي كل أطراف الصراع الاجتماعي حول الحداثة – القوي منهم والأقل قوة – مساحة للتعبير عن مصالحهم ورؤاهم وأملا في تحقيقها يوما ما بما يسمح لكل الأطراف بتسوية وإدارة صراعاتهم. بلغة أبسط، انتصرت الليبرالية لأنها تشبه الوسادة الجيدة: تتكيف مع الأشكال والأوزان المختلفة للرأس المستندة إليها وتريحها بما يكفي لاستغراق صاحبها في النوم.

وللتوضيح، ليس هذا المقال دفاع عن الحداثة ولا تغزل في جمالها، فقد أفرزت الحداثة كوارث لم تشهد الإنسانية لها مثيلا في التاريخ. ولا هو تغزلا في الليبرالية أو ذم في غيرها بل بيان لأسباب انتصار الليبرالية ولارتباطها بالحداثة. ربما تنهار الحداثة: ربما يؤدي تغير المناخ لفناء الحياة الاجتماعية كما نعرفها، أو تتحول الأغلبية للشيوعية وتغير النظام الاجتماعي، أو يضرب نيزك كوكب الأرض ويخلصنا، لكن طالما استمرت الحياة الاجتماعية الحديثة التي نعرفها، ستستمر الليبرالية في التأقلم والانتصار.

السؤال التالي لهذا الكلام هو: لماذا ظلت الليبرالية في مصر أيديولوجية نخبوية؟ بل لماذا ظلت أيديولوجية الأقلية داخل النخبة (التي مال معظمها للإيديولوجيات الشمولية كالماركسية والفاشية الوطنية) في حين سيطرت الأصوليات الدينية على الأغلبية؟

لماذا لم تنتصر الليبرالية في مصر – حتى اليوم؟ ولماذا أقول أنها ستنتصر وتسود؟