هل يمكن أن تكون مسلما وليبراليا؟

يفضل البعض عدم إثارة القضايا العقائدية كونها تباعد بين الناس، مفضلين التركيز على القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي توحدهم. ومع احترامي لوجهة النظر هذه، إلا أني أرى العكس تماما: التلفيق وتلبيس طاقية الناس لبعضها لا يخفي الاختلافات بل يحولها لقنابل مؤجلة تنفجر فينا حين يحين موعدها، غالبا دون أن نحتاط لها ونعمل معا على نزع فتيلها. ومن هنا هذا المقال. لا أهدف منه للدعوة لموقف ما، ولا بيان أفضلية رؤية على غيرها. كل ما أرجوه هو بيان الخيوط من بعضها، دفع البعض كي يفكر في الأمر وينظر أين يقف، لعل ذلك يوضح الأمور ويفك الملتبسات – لا أكثر من هذا.

السؤال هو: هل يمكن أن يكون المرء مسلما وليبراليا (أو ديمقراطيا) في نفس الوقت؟ والإجابة تعتمد على فهمك للإسلام في ثلاثة أمور:

١- إن كنت تعتقد أن السيادة السياسية لله، بمعنى “الحاكمية” الذي شرحه ابن تيمية والسلفيون من بعده، إذا لا يمكن أن يكون المرء مسلما وليبراليا، ولا حتى مسلما وديمقراطيا، لأن مبدأ الحاكمية يعني أن السيادة (بمعناها السياسي) لله وحده، ومن ثم فقيام البشر بسن القوانين وممارسة السيادة يعد افتئاتا على حقوق الله بل وشرك يخرج صاحبه من الملة. وبديهي أن جوهر الليبرالية والديمقراطية هو قيام ممثلي الشعب بسن القوانين التي يرونها ملائمة في إطار مؤسسات بشرية يطورونها وفقا لما يرونه مناسبا لظروفهم (دون تعدي على حقوق الأفراد وحرياتهم).

ابو محمد المقدسي

٢- إن كنت تعتقد بوجوب هجر غير المسلمين (مرتدين كانوا أم أهل كتاب أم كفار) والجهاد ضدهم (حين تتوفر شروطه) ليس فقط دفاعا عن النفس وانما درءا للفتنة أو لإعلاء كلمة الله، على النحو الذى شرحه سيد قطب ومن تبعه من فقهاء الجهاد، فإن الإجابة أيضا أنه لا يمكنك أن تكون مسلما وليبراليا أو ديمقراطيا. لأن الديمقراطية الليبرالية تقوم على مبدأ التعايش بين فئات تختلف في الرؤى والعقائد وعلى قبول كل فئة لحق الفئات الأخرى -المتساوي- في ممارسة رؤاها وعقائدها (دون تعد على حقوق الأفراد وحرياتهم).

٣- وإن كنت تعتقد ان الاسلام دين ودولة، على النحو الذي شرحه فقهاء الإسلام السياسي من ابن تيمية إلى حسن البنا إلى أبومحمد المقدسي، فلا يمكنك أن تكون مسلما وليبراليا ديمقراطيا، لأن جوهر الديمقراطية الليبرالية هو تنظيم شئون الدولة بالاحتكام لمزيج من المصلحة والقوة والعقل لا وفقا لقواعد الدين، وإقرار المساواة الكاملة بين الأفراد أمام القانون دون تمييز على أساس دينهم أو جنسهم، وإعلاء حرية الفرد فوق الواجبات الدينية إن حدث بينهم تعارض.

سيد قطب وحسن البنا

طبعا كل نقطة من هذه النقاط بها تفاصيل وشروح ومهاترات لا نهائية، ولكني أظن أن هذا هو مختصرها المفيد: إن كنت تعتقد أن “الحكم لله”، أو تعتقد بضرورة هجر غير المسلمين وقتالهم، أو تعتقد بأن الإسلام دين ودولة، فعلاقتك بالليبرالية أو الديمقراطية تتراوح بين الرفض التام والقبول المؤقت. الرفض التام لتعارضها المباشر مع رؤيتك لطبيعة التوحيد والدين نفسه. وهذا ماذهبت اليه كثير من المذاهب السلفية وعموم الجهاديين. أو القبول المؤقت تمكينا للدعوة حتى يسود “الدين الحق” ويشكل الأغلبية في المجتمع وعندها تعيد هذه الأغلبية صياغة النظام السياسي والاجتماعي ليتوائم مع “الرؤية الإسلامية”، وهذا هو منهج جماعة الإخوان المسلمين الذي أرساه حسن البنا (وقسم من السلفيين الذين ينتظرون اكتمال شروط الجهاد). القبول المؤقت بالديمقراطية مشروط إذا، وهدفه النهائي ليس إنشاء دولة ديمقراطية بل “دولة إسلامية”. الجهادي والإخواني (وبعض السلفيين) يختلفون اذا على الطريقة ويتفقون على الهدف وهو إقامة الدولة الإسلامية، سواء في شكلها الجمهوري مثل “الجمهورية الإسلامية في إيران” أو في شكل الإمارة مثل “الدولة الإسلامية في العراق والشام”.

لكن هذا ليس الموقف الوحيد الممكن للمسلم. فيمكنك أن تكون مسلما حسن الإسلام، تري في دين الله منهاجا لحياتك وهاديا لتصرفاتك الشخصية ولمعاملاتك مع غيرك، وتعيش حياتك كلها في الحلال البين ممتنعا عن الحرام ومتجنبا للمشتبهات، تقيم شعائر الدين فرائضا وسننا، وتؤدي حق الله وتحفظ حقوق عباده لا يضيع منها عندك شيئا، وفي نفس الوقت تكن ديمقراطيا أو ليبراليا، وذلك إن كان فهمك للإسلام يتضمن ثلاثة أمور:

١– أن الناس أحرار فيما يعتقدون دون وصاية منك عليهم

لا يعني هذا أن تعتقد في نسبية الحقيقة أو الدين، أو أن غير المسلمين على ذرة من الحق في معتقداتهم، أو أن المسلمين تاركي الإسلام ممارسة أو عقيدة ليسوا فاسقين أو مرتدين. يمكنك أن تعتقد أنك وحدك تنتمي للفرقة الناجية والباقين في النار مخلدين فيها، لكنك في نفس الوقت تؤمن أن كل انسان مسئول عن نفسه، فلا تزر وازرة وزر أخرى، ومن ثم يؤمن غيرك أو يكفر كما يشاء دون تدخل منك. يمكنك دعوة الناس للإيمان بدين الحق إن شئت، لكن دون إكراه حتى لو ملكت القدرة على الإكراه. وإن دعاك غيرك للإيمان بباطل ما، فرد كريم ويذهب كل لحال سبيله.

٢– أن المودة والتراحم بين الناس واجبة بغض النظر عن اختلاف مللهم

ويعني هذا احترام قواعد التعايش السلمي مع من تختلف معهم في الأخلاق والدين والمذهب، سواء كانوا جيران مباشرين أم مواطنين في الدولة أو عموم سكان الكرة الأرضية. كل ما يعنيك من أمر غيرك هو معاملته لك؛ إن أحسن فله وإن أساء فعليه. ترد الحسنة بالحسنة والسيئة بمثلها أو تعفو إن قدرت. إن كان غيرك فاسقا أو مرتدا أو كافرا فهذا أمر لا يستدعي منك معاداته، فكل ما لك منه – وعليه – هو المودة والتراحم لا الردع أو التقويم.

٣– أن إدارة شئون الدولة هي أمور يجتهد فيها البشر حسب معرفتهم وقدرتهم

ومعنى هذا أن إدارة أمور الصحة العامة أو التعليم أو القضاء لا علاقة له بالدين. الوزير الجيد ليس بالضرورة مسلما حسن الإسلام، وإنما مديرا حسن الفهم والتقدير وملتزم بالقانون. نظام التعليم الجيد ليس النظام “الإسلامي” المطابق “للشرع” وانما النظام الذي يؤهل النشئ للتعامل مع العالم وتحدياته بأفضل طريقة متاحة. نظام الصحة الجيد ليس النظام “الإسلامي” المطابق “للشرع” وانما النظام الذي يحفظ صحة المواطنين ويرعاها بأفضل طريقة متاحة. نظام القضاء الجيد ليس النظام “الإسلامي” المطابق “للشرع” وانما النظام الذي يقيم حكم القانون ويحقق العدالة بأفضل طريقة متاحة. والقانون السليم ليس المطابق لنصوص الدين وانما المطابق لرضا الأغلبية دون افتئات على حقوق الأفراد وحرياتهم، وهكذا.

ولا يعني هذا اختفاء الدين من الحياة العامة، أو حصاره والتقليل من شأنه، أو كسر علاقته بالدولة. فلا أعرف بلدا ديمقراطيا ليبراليا مستقرا يحاصر الدين أو يغفل دوره في الحياة العامة، من بريطانيا إلى الولايات المتحدة مرورا بفرنسا المشهورة بتشبثها العلماني. في كل هذه الديمقراطيات يتولى المجتمع نفسه – من خلال مؤسسات عريقة ومستقلة – إدارة شئونه الدينية، دون تدخل من الدولة إلا لماما. وفي كل هذه الديمقراطيات تلعب ديانة الأغلبية دورا هاما في الحياة العامة، وأحيانا تلعب دورا مباشرا في الحياة السياسية، لكنها لا تلعب دورا في إدارة شئون الدولة – على الأقل ليس بشكل مباشر أو رسمي.

رجال دين انجيليون يصلون مع الرئيس الأمريكي بالمكتب البيضاوي

باختصار، إن كان فهمك للإسلام يشمل احترام حرية الغير، والقبول بالتعايش مع المختلفين دينيا دون وصاية عليهم، والقبول بفصل إدارة الدولة عن الدين، فيمكنك بسهولة الجمع بين الإسلام والليبرالية أو الإسلام والديمقراطية مهما كانت درجة تدينك بل وتزمتك في الدين. ساعتها يكون تدينك مسألة تخصك أنت وليست شأنا عاما. ولأنك لا تجعل من تدينك مقياسا لادارة شئون الدولة بالتالي لا يحشر أحد نفسه في تدينك أو يعتبره مشكلة تهدد الديمقراطية. هكذا يمكن قيام حزب ديمقراطي إسلامي مثلما قامت أحزاب ديمقراطية مسيحية وحكمت ديمقراطيات دون أن تسعى لتحويلها لـ”دول مسيحية”.

المفتاح ليس في قبول الليبراليين للإسلام أو خوفهم منه، بل في فهم المسلم لهذه العناصر الثلاثة في الاسلام: هذا الفهم أو ذاك هو الذي يحدد علاقته بالليبرالية وبالديمقراطية. فحدد موقفك يفتح الله عليك وينير طريقك وطريقنا جميعا.