نقطة البداية: ترجمة أحلامنا إلى رؤية للحكم


كيف ننظم أنفسنا كقوة سياسية قادرة على حكم مصر في ظل قمع أمني يلقي بالناس في السجون بسبب وقفة في مظاهرة أو تعليق على تويتر أو فيسبوك؟

أحاول هنا الإجابة على هذا السؤال، مع إقراري بأن إجابتي بالضرورة ناقصة وغير دقيقة، وتغفل جوانب لا أراها. وهدفي من طرحها ليس دفع غيري لقبولها أو رفضها، وانما التفكير في السؤال وإجابته بغرض تصحيحها واستكمالها أو تقديم إجابة أفضل منها. فما يهمني هو دفع التفكير بشكل عملي في الإجابة على هذا السؤال الذي يتوقف عليه مستقبل الديمقراطية في مصر.

ماذا نقدم للناس؟ ولم يثقوا بنا؟

بداية الخيط في رأيي هي تحديد ما يجمعنا كتيار سياسي، تحديد المصالح المشتركة التي تجمعنا وتجعل غيرنا يريد الانضمام الينا أو مساندتنا، تحديد السبب الذي يدفع الناس للنزول للشارع دفاعا عنا أو مطالبة بتولينا الحكم. إن كان الذي يجمعنا هو حلم العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، فالأحلام متاحة للجميع، ولن يؤيدنا أحد إعجابا بحلمنا، فالناس يؤيدون التنظيمات السياسية التي يثقون في قدرتها على حماية مصلحتهم لا تلك التي تشاركهم الأحلام.

ويعني هذا أمرين: أن تأييد الناس – وهو أساس أي عمل سياسي – مرهون بثقتهم في قدرة التنظيم لا فقط في نواياه، وفي حمايته لمصلحتهم كما يرونها هم لا كما يراها قادة التنظيم. تبنينا لمصالح قوة اجتماعية ما لا يعني بالضرورة أنها ستؤيدنا. مثال واضح على هذا هو الأحزاب اليسارية العربية، التي دافعت عبر قرن كامل عن مصالح الأغلبية الفقيرة دون أن تنجح في الحصول على تأييدها. لم؟ لأن هذه الأغلبية لا تثق في قدرة الأحزاب اليسارية على تحقيق دعاواها، أو لأن فهم هذه الأغلبية لمصالحها يختلف عما تقوله التنظيمات اليسارية.

تحديد مصلحة الناس مسألة تخصهم هم لا تخصك أنت. الفلاحون الفقراء ساندوا حزب الوفد الذي يقوده كبار الملاك ودافعوا عنه ضد القصر والانجليز لاقتناعهم أن قضية الاستقلال الوطني من مصلحتهم. وظلوا يؤيدونه لأكثر من عشرين عاما حتى اكتشفوا أنه لن يأتي باستقلال حقيقي أو أن هذا الاستقلال لن يحسن وضعهم كثيرا. مع الوقت قررت هذه الأغلبية أن مصلحتها في حلم القومية والتنمية المستقلة، فألقت بتأييدها خلف جمال عبدالناصر حتى هزيمته. ظلوا يحبونه لآخر يوم ويشاطرونه أحلامه، لكنهم فقدوا الثقة في قدرته على تحقيقها فانحسر تأييدهم للأفكار والتنظيمات التي يمثلها – ومن ثم حين انقلب السادات عليها لم تحرك الأغلبية ساكنا. وفي الفترة من ١٩٨٠ حتى ٢٠١٣،  رأت هذه الأغلبية أن وعود الإسلام السياسي تحقق مصالحها ومن ثم ألقت بتأييدها خلفها، رغم تكلفة هذا. وفي ٢٠١٣ رأت الأغلبية مصلحتها في استعادة الأمن والضبط والربط، ومن ثم ألقت بتأييدها خلف الجيش وأجهزة الدولة التي ثارت عليها قبلها بعامين.

تعريف القوى الاجتماعية لمصلحتها هو المهم، وثقتها في قدرتك على تحقيقها أهم. إن حدثتها عن مصلحة لا تشكل أولوية لها انصرفت عنك. وإن حدثتها عن مصلحتها التي تشكل أولوية لها لكن دون “أمارة” تثبت قدرتك على تحقيقها انصرفت عنك أيضا.

كيف ترى الأغلبية مصلحتها اليوم؟

السؤال إذا هو: ماهي المصلحة التي تريدها أغلبية الشعب المصري اليوم والتي يمكن أن تنزل الشارع من أجلها، سواء للاحتجاج أو التصويت؟ وإجابتي هي: الحكم الرشيد الذي يقضي على الفقر ويوفر الخدمات.

الحكم الرشيد يشمل إدارة موارد الدولة بشكل يعظمها ويحقق درجة مقبولة من العدالة في توزيع فوائدها وأعبائها، وإقامة دولة القانون التي تحترم قواعد العدالة وتحمي الحريات، ومحاربة الفساد، وتوفير رقابة شعبية على من في السلطة، وإطلاق طاقات المجتمع ومساعدة أفراده على السعي خلف طموحاتهم. الشعب كله يحلم بهذا الحكم الرشيد، لكنه يتوقع منه أيضا أن يقضي على الفقر ويوفر الخدمات الأساسية للجميع لا أن يكون حكما رشيدا لنخبة غنية تمتص موارد البلاد وتهمش الأغلبية بالقانون.

هذا الحلم الثلاثي الأبعاد (الحكم الرشيد، القضاء على الفقر، وتوفير الخدمات للجميع) هو ما يجمع الأغلبية الكاسحة للشعب المصري، فقراء وأغنياء، عمال وفلاحين وفئات، سكان مدن وأرياف. هذا هو الحلم الذي يعد النظام الحاكم بتحقيقه منذ خمسين عاما (ويفشل)، والذي يطالب به الجميع حكومة ومعارضة، وهو ترجمة مباشرة لهتاف العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. الإسلاميون واليساريون والقوميون يضيفون عليه دعاوى إضافية، يقبلها أتباعهم ويرفضها الباقون. لكن الحلم المشترك، ما يلتف حوله أغلبية الناس، هو هذا: الحكم الرشيد الذي يقضي على الفقر ويوفر الخدمات للجميع.

ما دورنا نحن في هذه القصة إذا؟

هذه هي مصلحة أغلبية الشعب وأولويته، ونحن نطالب بها طول الوقت. لكن هل تثق هذه الأغلبية بقدرتنا على تحقيقها؟ الإجابة طبعا لا، بل تنظر الينا باعتبارنا حالمين أو مزايدين ومزعجين.

لكن ماذا لو صدق أغلبية الناس أننا نستطيع بالفعل تحقيق هذا الحلم؟ ماذا لو اقتنعوا بقدرتنا على الإصلاح الجذري لشبه الدولة التي يعيشون في ظلها، بقوانينها التي تعيق مصالح الناس أكثر مما تنظمها، باقتصادها الذي لا يعرف الرئيس كيف يوفر منه مليون وظيفة سنويا ولا كيف ينفق منه على اصلاح القطارات التي تدوسنا، وبشرطتها التي تعرف كيف تعذب الناس أكثر مما تعرف كيف تجد اللصوص، وبفقراءها الذين يتخطى عددهم نصف السكان؟ ماذا لو رأوا منا أمارة، علامة، جعلتهم يثقون بقدرتنا على إزاحة كل ذلك وإقامة الدولة الجديدة التي نطالب بها؟ هل سينضمون إلينا ساعتها في الضغط على السلطة الحاكمة كي تفسح لنا مجالا؟ هل سيصوتون لنا ساعتها في الانتخابات؟ وإن لم تستجب السلطة فهل سيتبعوننا ساعتها في المسيرات والإضرابات والاعتصامات؟

في رأيي أنهم لو اقتنعوا فعلا بقدرتنا على تحقيق هذا الحلم سيفعلون كل هذا وأكثر، وساعتها لن تفيد المدرعات سائقيها. بل أكثر من ذلك، لو اقتنعت الأغلبية بقدرتنا على تحقيق هذا الحلم فسيؤيدنا قطاع هام من السلطة نفسها، لأن عدد الراغبين في تحقيق هذا الحلم داخل مؤسسات السلطة أكبر بكثير من عدد المستفيدين من غيابه.

المطلوب إذا، قبل الحديث عن اسم التنظيم ونوع البيانات وخطة التعبئة وتحديات القمع، هو بلورة رؤية ديمقراطية للحكم تحقق هذا الحلم. ولا يعني هذا اهمال عنصر التنظيم – سأتطرق اليه لاحقا، ولكن الخطوة الأولى هي بلورة رؤية لتحقيق مطالبنا السياسية، أي للحكم.

معالم على الطريق؟

وكي يكون لهذه الرؤية معنى، يجب أن تتجاوز العموميات – هذه الأشياء اللطيفة التي تكتبها الأحزاب في برامجها ويطبعها المرشحون في منشوراتهم الانتخابية غالبا دون قراءتها. كي يكون لهذه الرؤية معنى يجب أن تترجم مطالبنا إلى برامج تحقق هذه المطالب. المواطن العادي يطالب، النقابة تطالب، الشعب يريد، أما التنظيم السياسي فيقدم برنامج لتحقيق المطالب. العدالة الاجتماعية ليست رؤية للحكم، بل مطلب. دور التنظيم السياسي أن يطرح برامج لتحقيقها؛ ترجمتها لإجراءات محددة، بموارد معلومة تمولها وإطار زمني لكل هذا. العموميات، مثل “فرض الضرائب التصاعدية” و”ضرائب الأرباح على البورصة” و”تنشيط السياحة غير التقليدية” وما شابه هذا الكلام لا يؤكل عيش ولا يجيب عيال. هذا مجرد كلام، فقاعات في الهواء، لا تقنع أحد بالنزول للشارع لوضعك في كرسي الحكم. المطلوب إذا رؤية تتمتع بأربع خصائص:

  1. واقعية التوقعات. فلا تفترض أشياء مثالية، مثل “توحد الجميع خلف هدف مشترك”، و”حسن النوايا”، و”تعاون جميع الأطراف”، و”إعلاء المصلحة العامة على المصالح الضيقة”، وكل هذا الهراء الذي ورثناه من أدبيات التربية القومية التعيسة. رؤية الحكم الواقعية يجب أن تفترض سعي كل طرف لحماية مصلحته الخاصة على حساب أي شيء آخر، ودفاع أصحاب المكاسب عن مكاسبهم، وعمل أنصار الاستبداد على حماية استبدادهم، وهكذا.
  2. أن تضع الأغلبية الفقيرة في قلب اهتمامها، بحيث يكون توفير سبل الحياة الكريمة لها وإتاحة فرص التقدم والترقي لأبنائها هو أولويتها، دون تعطيل لآليات السوق أو تهديد لاندماج مصر في الاقتصاد العالمي. ويعني هذا ألا تفترض تلك الرؤية أن موارد جديدة ستهبط علينا من السماء؛ ليس هناك اختراع يجعل مصر دولة غنية في ثلاث سنوات، ولا فكرة عبقرية تدر علينا مليارات الدولارات فجأة، ولن تؤدي “محاربة الفساد” و”استرداد الأموال المنهوبة” لمضاعفة الموارد. أي رؤية للحكم يجب أن تبدأ من المليارات التعيسة التي تشكل مواردنا العامة هذا العام، ومن حقيقة ارتباط الاقتصاد المصري بالاقتصاد العالمي، ثم ترسم طريقا – واقعيا – لزيادة هذه الموارد وتحسين علاقة الاقتصاد المصري بالسوق العالمي وحماية الفئات الاجتماعية الأضعف. غير ذلك نبقى بنضحك على أنفسنا.
  3. 3.    أن تضع إعادة بناء مؤسسات الدولة والمجتمع في أعلى سلم أولوياتها، من وزارة الري إلى مصر للطيران مرورا بالأزهر والجهاز المركزي للمحاسبات ووزارة الداخلية، لأنها هي الأدوات التي ننظم بها حياتنا العامة. وأن يكون طرحها قائما على فهم لواقع هذه المؤسسات: كيفية عملها وقدراتها الحقيقية، لا واجباتها المنصوص عليها في اللوائح والقوانين. ونقطة البداية هي الإقرار بأن هذه المؤسسات لن تتحول بين يوم وليلة لمجرد أن الرئيس منتخب وأن هناك برلمان يزعق أعضاؤه أمام الميكروفونات. فالغسالة المكسورة لن تعمل مهما صرخت فيها ومهما غيرت نوع مسحوق الغسيل. إصلاح الماكينة المكسورة، أو المتهاوية التي تعمل بالزق والمحايلة والترقيع، لن يتم إلا بإصلاح عيوبها هي. الأفكار الشعبية الخيالية، مثل تعيين شباب كفء وعظيم في مواقع القيادة، هي ترهات مماثلة لاختراعات الطفل المنوفي. الإصلاح المؤسسي صعب وسيقاومه معظم العاملين بهذه المؤسسات مالم تجد وسيلة لتحقيق مصالحهم الخاصة من خلال عملية الإصلاح، ولهذا فهو يحتاج لوقت وذكاء وواقعية، وهذا هو دور رؤية الحكم التي أتحدث عنها.
  4. أن تتمتع بقبول وتصديق الناس. وهذا هو ما يجعل بلورة هذه الرؤية عمل سياسي وليس عملا فنيا يقوم به مجموعة من التكنوقراط. ولتحقيق هذا لا بد أن تبدأ بالاستماع للناس أولا، وقبول رؤاهم ومصالحهم كما يرونها لا السعي لتغييرها. إن كانت لقمة العيش أهم لهم من الأفكار الكبرى يجب احترام هذا. إن كانوا يفزعون مما يرونه تطرف ومغالاة ويفضلون عليه أمان ما يعرفونه يجب احترام هذا. نحن لا نبني تيار سياسي يعظ الناس ويرشدهم لحسن السبيل بقدر ما نبني تيار سياسي يسعى لحماية مصالحهم، كما يرونها ووفقا لأولوياتهم هم.

ترجمة مطالبنا إلى رؤية للحكم مجرد خطوة أولى، لكن الانخراط فيها يشكل بداية لحل مشكلة التنظيم تحت القمع.