كيف نصل للحكم؟

هناك ثلاث سيناريوهات لذلك لا أرى لهم رابعا:

  • في سياق انتفاضة شعبية تطيح بالنظام الحالي وتأتي بتحالف من المعارضة الإسلامية والمدنية.
  • أن يدعونا العسكريون للمشاركة في الحكم بشكل يقلل مسئولية الجيش عن تفاصيل الحكم ويعطي انطباعا بمدنية النظام.
  • بالانتخابات، في إطار صراع سياسي ممتد تخوضه قوة ديمقراطية منظمة ضد الاستبداد العسكري والديني.

وفي رأيي المتواضع، فإن السيناريو الأول والثاني أقرب للحدوث من الثالث، لكن السيناريو الثالث هو الوحيد الذي يمكن أن ينجح في تحويل مصر لدولة ديمقراطية.

لماذا يجب أن نأخذ الطريق الأصعب؟

في السيناريو الأول والثاني سيظل الديمقراطيون شريكا تابعا، تعتمد سلطاته – بل وبقاؤه في الحكم – على سعة أفق شريكه الذي يستطيع نشر عشرات الآلاف في الشوارع، سواء في الأتوبيسات أو المدرعات، كما يستطيع إعادتهم لبيوتهم بكلمة. الشريك الذي يستطيع فتح البلد وإغلاقها كل يوم إن أراد، بقرار من قيادته. الشريك الذي يستطيع التفاوض باسم قواعده، وفرض ما يتوصل إليه من اتفاقات.

لا يستطيع الديمقراطيون الليبراليون مواجهة هذا الشريك مهما كانوا على حق، ومهما كانوا مبدعين أصحاب أفكار خلاقة ويشكلون أمل مصر في النجاة، بل ومهما كانوا يحظون بتعاطف الملايين من مشاهدي التلفزيون. الاعتقاد بأن الوجود في الحكم كشريك أصغر سيمكن الديمقراطيين من بناء قواعد تأييد بسرعة هو اعتقاد مفرط في التفاؤل، ويغفل حقيقتين هامتين: أن الوجود في الحكم في هذه الظروف التعيسة لا يمكن أن يكون مصدر للشعبية، وأن الشريك الأقوى موجوب في الحكم أيضا وسيفعل ما بوسعه للحيلولة دون هذا. وبدون قوة منظمة ومستقلة، لن يستطيع الديمقراطيون مواجهة قوة شريكهم المستند لقواعد تأتمر بأمره. حتى لو ملأ الديمقراطيون الميدان يوم الجمعة، تظل حشودهم هذه مؤقتة، تتبدد مع الوقت لأسباب لا سيطرة للديمقراطيين عليها. كما تظل هذه الحشود شبه مستقلة، لا تقبل أن يتفاوض أحد باسمها، ولا تسمع كلام أحد، ومن ثم لا يمكن للديمقراطيين استخدامها كأداة للصراع إلا بشكل عرضي ومؤقت.

وبناء عليه، فإن مصير الديمقراطيين في السيناريو الأول والثاني سيشبه مصيرهم في ٢٠١١ وفي ٢٠١٣ (بل ومنذ ١٩٢٣)؛ يتم استدعائهم لغرض في ذهن شركائهم، ثم صرفهم حين ينتفي هذا الغرض. ضعف – أو غياب – القوة المنظمة هو العيب الرئيسي الذي يعاني منه الديمقراطيون في مصر منذ ظهورهم. ومن ثم فإن الخيار الثالث، بناء قوة سياسية تسعى لحكم مصر وفقا لرؤية ديمقراطية، يشكل في رأيي أفضل طريق لحل “المسألة المصرية” المستعصية على الحل منذ قرنين.

لكن كيف ونحن في هذا الهم؟

يثير الحديث عن هذا الخيار اعتراضات فورية؛ كيف يمكن بناء مثل هذه القوة في ظل الاستبداد الذي لا يترك لأحد فرصة التنفس؟ وهل يمكن لقوة ليبرالية كسب انتخابات في مجتمع يغلب عليه التعصب والجهل والفقر؟

هذه هي الأسئلة الكبرى التي نتفادى مواجهتها منذ عقود طويلة. تفادي مواجهتها لا يجعلها تختفي أو تصبح أقل حدة، بل تعود وتعضنا ونحن نركض خلف أوهام التنوير والتحرير والتثوير. طرح إجابات على هذه الأسئلة هو مسئوليتنا الأولى، خاصة الآن ونحن نرقد في القاع آسفين على حالنا. وبالطبع لا يوجد إجابة واحدة صحيحة على هذه الأسئلة، لكن محاولات الإجابة ومقارنة الإجابات ببعضها واختبارها هو الذي سيبلور حلولا مفيدة. ومن هنا أطرح إجاباتي، وأرجو اعتبارها مسودات، تحتاج تعديلات وتغييرات كي تنفع، أو تحتاج إجابات غيرها خير منها.

بداية، إجابتي هي نعم على كل هذه الأسئلة: من الممكن بناء قوة ديمقراطية ليبرالية – تحت القمع – تصبح قادرة على مصارعة الاستبداد وإرساء قواعد ديمقراطية تصل في ظلها للحكم بتأييد من أغلبية الشعب، وتدير هذا الحكم بشكل ناجح. فليس هناك شيء في “طبيعة الديمقراطية الليبرالية” أو في “طبيعة الشعب المصري” يسجنها في قفص النخبوية أو يدفن الأغلبية في قبور الاستبداد العسكري والديني. شعوب أخرى تشبهنا – في آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية – فرت من هذا المصير التعس. ولا يحول القمع مهما بلغت شدته من بناء قوة تصارعه وتزيحه؛ شعوب أخرى عاشت تحت قمع أشد من هذا – في أوروبا الشرقية وفي آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية – ونجح دمقراطيوها في بناء قوتهم وإزاحة الاستبداد. أكثر من هذا، الناس داخل السجون تبني تنظيمات سياسية، وتجند عناصر، وتطور رؤى؛ هل يحول قمع السجان ومراقبته الصارمة دون ذلك؟

هل الليبراليون أغلبية أم أقلية؟

زعمت في مقالات سابقة أننا – أنصار الديمقراطية الليبرالية – نشكل أغلبية الشعب، وزعم آخرون أننا أقلية. ولا يمكن التحقق من أي الزعمين في ظل القمع، ليس فقط بسبب غياب قياسات للرأي العام يمكن الثقة فيها وإنما لأن السؤال نفسه لا معنى له في ظل الاستبداد. بالإضافة الى عامل الخوف، وغياب مناخ عام مفتوح يسمح للناس بطرح الأفكار ومناقشة الرؤى، فإن السؤال عن الديمقراطية في ظل الاستبداد سؤال نظري إجابته عشوائية في أحسن الأحوال. الإجابة الحقيقية، تلك التي يمكن الارتكان لها، هي تلك التي تنشأ كرد فعل على طرح ديمقراطي ملموس وله مصداقية. ساعتها فقط سيتعب المواطن نفسه ويتخذ موقفا حقيقيا من “الديمقراطية”، لأنها ترجمت لأسئلة ملموسة تمس مصلحته. أما طول ما الديمقراطية كلام فارغ من مثل هذا المحتوى الملموس، سيتجاهلها المواطن العادي أو يبدي فيها رأيا كلاميا فارغ من المضمون أيضا. بمعنى آخر، مدى التأييد للديمقراطية ليس حقيقة ثابتة يمكن معرفتها سلفا وانما هي “حقيقة اجتماعية” تتغير من خلال التفاعل الاجتماعي والسياسي. ومن ثم ففي ظل القمع، لا يمكن التوصل لإجابة دقيقة لأن هذا التفاعل مجمد. لكن برغم ذلك فهناك ولا شك نواة صلبة من الديمقراطيين، وهي التي تستطيع بدء عملية بناء “القوة الديمقراطية” هذه. مدى التأييد الذي ستحظى به بين المواطنين لن يتضح إلا مع مرور الوقت ودخول هذه القوة في الصراع السياسي بطرح ملموس.

لكن علينا أيضا تذكر أن شعوبا أخرى تشبهنا، وظروفها تشبه ظروفنا، لم تنج من مقبرة الاستبداد، وظلت قواها الديمقراطية تائهة مشتتة عاجزة عن التأثير على مجريات حياتها. المسألة إذا ليست محسومة سلفا؛ لا هزيمة الاستبداد ولا انتصاره حتمية تاريخية. وسواء كان النجاح قريب أو بعيد المنال، فإن ضرورة هذا السعي لا تتغير. قد يكون النجاح قريبا، ولكن حتى لو كان النجاح بعيد المنال، ولن يتم إلا في حياة أولادنا، فهل نريد قضاء حياتنا في التحسر على واقعنا أم في السعي لتغييره؟ وهل نريد السعي لتغييره من خلال عمل تراكمي متواصل أم من خلال هبات شبه انتحارية تمنح أصحابها نشوة اللقطة الدرامية ثم تتبعثر تحت أقدام المستبد الظافر؟

كيف نبني هذه القوة الديمقراطية الليبرالية؟

بناء قوة ديمقراطية تصارع الاستبداد له عنصران: الأول هو بلورة رؤية عملية للحكم مقبولة للأغلبية، والثاني هو بناء تنظيم سياسي قادر على حمل هذه الرؤية وأصحابها إلى الحكم. لا يمكن الاستغناء عن أي من هذين العنصرين: بدون رؤية للحكم لن يتمكن التنظيم السياسي من ترسيخ قواعده وبناء التأييد اللازم لنجاحه، وحتى لو وجد نفسه في الحكم بصدفة ما فلن يعرف كيف يحكم بشكل يختلف عن المستبدين. وبدون تنظيم سياسي يكون الأمر برمته مجهود ذهني مثل كل الأطروحات الليبرالية النخبوية السابقة. بلورة رؤية عملية للحكم مقبولة للأغلبية وبناء تنظيم سياسي قادر هما عمليتان متداخلتان تسهم كل منهما في الأخرى. ويمكن الشروع في كل من هاتين العمليتين من الآن، برغم القمع.

كيف نبلور هذه الرؤية؟

وكيف نبني التنظيم السياسي؟

فكر في إجاباتك، وسأطرح إجاباتي في المقال القادم. وإن كنت مستعجل – أحسن الديمقراطية تفوتك – فاكتب اجاباتك أنت الآن وانشرها.