بناء الديمقراطية من القاع

أنت وأنا وبقية أنصار الديمقراطية في مصر نقف اليوم في القاع. ليس لدينا تنظيم سياسي فعال أو شبه فعال، وربما ليس لدينا تنظيم سياسي على الإطلاق. ونعيش في كنف نظام سياسي مستبد تغلغل استبداده في كافة مناحي الحياة العامة، وأدت الهزة العنيفة التي تعرض لها في ٢٠١١-٢٠١٣ لإطلاق عقال استبداده لمستويات أسوأ مما عرفناه في الماضي بحيث حول مصر كلها إلى سجن كبير. و”شركاؤنا في الوطن” محبين للاستبداد مدمنين له (ومن يعتقد منهم أنه يحب الديمقراطية يخلط بين الحب وبين الاستغلال)، ومع تفشي القمع تفشى اليأس وخيم الاكتئاب على الحياة العامة والخاصة معا، وانحسرت توقعات معظمنا إلى الحد الأدنى.

وبما إننا في القاع وليس لدينا تصور واضح عن كيفية العودة للسطح؛ لم نبن تنظيم سياسي يحملنا إلى الحكم، ولم نبلور حتى تصورات عملية عن كيفية الحكم لو هبط علينا بمعجزة إلهية. وبما أن الاستبداد العسكري والديني قد انتصرا. وبما إننا لا نعرف حتى ماذا سنفعل لو انهار الحكم العسكري فجأة تحت وطأة فشله، ولا ما سنفعله لو نجح الحكم العسكري واستمر، وبما أن اليأس سيد الموقف، فربما يجدر بنا أن نتأمل قليلا في حالنا ونحن واقفين هنا في القاع، لعل التأمل يوضح رؤيتنا قليلا، ومن يدري، لعل اتضاح الرؤية يفتح لنا أفقا.

وكيلا أضيع وقت أحد معي، أريد التأكيد مرة أخرى أني أخاطب أنصار الديمقراطية الليبرالية دون غيرهم، ليس إقصاءً لأحد فللجميع مكانا في هذه الديمقراطية. لكن اعتقادا مني أن لبقية الطوائف بيوتها وتنظيماتها، في حين يظل أنصار الديمقراطية الليبرالية أيتاما على موائد غيرهم. وبداية الخيط هو فهم سر ضعفنا وتشتتنا المزمن منذ بدأت المطالبة بالديمقراطية في مصر من قرابة مائتي عام.

أول الخيط في رأيي تذكر أن الديمقراطية تبنى لا “تأتي”، وأن المستبدين (داخل الحكم وخارجه) سيقاومونها لآخر لحظة، وسيقمعوننا ما استطاعوا لهذا سبيلا. وأننا لا يمكن أن يقوم لنا قائمة مالم نكن قادرين على قيادة القطاعات الوسطى والفقيرة من الشعب، هؤلاء الذي ننظر إليهم عادة باعتبارهم جهلة يحتاجون “للتنوير”. وأننا، نتيجة عجزنا التاريخي عن تنظيم الناس وانتزاع إصلاحات ديمقراطية وفرضها على خصومنا، “نطالب” بالديمقراطية كأن جهة أخرى ستعدها وتقدمها لنا لنشارك فيها بل ونديرها. وحين أكرمنا ربنا وشاركنا في الصراع السياسي، تحالفنا مع قوى غير ديمقراطية – الإسلاميين والعسكريين، دون أن يكون لنا قواعدنا المستقلة، وبالتالي استخدمنا العسكريون والإسلاميون لإضفاء الطابع الديمقراطي على انقلاباتهم ثم ألقوا بنا جانبا بعد استنفاذ الغرض منا. ولما أكرمنا ربنا أكثر وانخرطنا في الصراع السياسي بمفردنا، من خلال المشاركة في الانتخابات مثلا، كنا نميل للانسحاب والمقاطعة لأن “حلبة الصراع غير عادلة”، و”الانتخابات غير نزيهة”، و”الإعلام غير مهني”، و”أجهزة الدولة لا تقف على الحياد”، و”قواعد اللعبة غير واضحة”، الى آخره. وكأن هذا الحال مفاجأة!

هذا العجز له أسبابه، وبعضها يعود لنشأة المطالبة بالديمقراطية في مصر كفكرة براقة وليس كمصلحة مباشرة لقوة اجتماعية تقاتل من أجلها. ارتبطت الديمقراطية بنماذج حكم رأيناها عند غيرنا وأردنا احتذائها. قال الليبراليون الأوائل، مثل رفاعة الطهطاوي في مصر وخيرالدين في تونس، أن نظام “الحكم الدستوري” خير ضمان لحسن إدارة أحوال الأمة ونهضتها ومن ثم علينا “نقله”. لمن كانوا يوجهون هذا الكلام؟ للشعب الذي يرون ضرورة “تنويره” وتعليمه كي يكون “جاهزا” للديمقراطية؟ وكيف سينتظم هذا الشعب الجاهل في تنظيم سياسي يطالب بشيء لا يعرفه وليس جاهزا له بعد؟ أم كانوا يوجهون الحديث للحاكم المستبد نفسه، وكأنهم ينتظرون منه مساعدتهم في القضاء علي استبداده بتعليم الشعب وتنويره وتنظيمه، أو التخلي عن سلطاته طواعية لأنه راجل طيب ومحب للتنوير!

وبالتالي ظل أنصار الديمقراطية يوجهون كلامهم للفراغ؛ تارة يلتصقون بالحاكم على أمل تنويره وإرشاده – مثل الطهطاوي وخيرالدين، وتارة يحاولون تعبئة الشعب بمسميات أخرى يمكنها الهاب مشاعره كالتقدم والوطنية والاستقلال مثلما فعل الأعيان في أول مجلس نيابي عام ١٨٦٦ ثم “الوفد” ابتداء من ١٩١٩. ومع أول صدام بين النخبة الديمقراطية الأولى والحاكم المستبد (بين 1866 و1882) ساحت النخبة الديمقراطية التي لا سند لها سوى كلامها، وتولى العسكريون – أحمد عرابي – قيادة المعارضة حتى سحق البريطانيون الجميع وأعادوا المستبد على العرش. خسارة الديمقراطيين الأولى كانت لصالح العسكر؛ في اللحظة التي تولى فيها عرابي قيادة المعارضة تحولت من حركة ديمقراطية تسعى لفرض رقابة شعبية على الموازنة العامة والضرائب (وهي بداية مماثلة لكل عمليات بناء الديمقراطية في العالم) إلى حركة عسكرية وطنية معادية للأجانب وتهدف لبسط سيطرة الضباط المصريين على الجيش والحكم – هل يذكركم هذا بشيء؟

لم يتمكن أنصار الحكم الدستوري من استعادة المبادرة إلا عندما تمكنوا من بناء تحالف شعبي بين كبار الملاك والتجار من ناحية والطبقات المتوسطة والفقيرة من ناحية أخرى. هكذا ولد “الوفد” وانفجرت ثورة 1919 واستمرت قيادات الوفد لمدة لا تتجاوز عشرين عاما في قيادة القطاع الأوسع من الشعب – غالبا من خلال إذكاء المشاعر الوطنية وأحلام التنمية الفورية. كان يمكن لهذه الأعوام العشرين أن تكون بداية الحكم الديمقراطي في مصر لولا خيبة طبقة كبار الملاك والتجار وقصر نظرها وعجزها الفاضح عن تجاوز مصالحها الضيقة وتحسين ظروف حياة الأغلبية التي تتولى قيادتها. ومن ثم فقدت قيادتها للقطاع الأوسع من الشعب وتحولت عمليتها الديمقراطية إلى لعبة نخبوية لا علاقة لها بالأغلبية. هكذا تسرب تأييد الأغلبية إلى من يمثل مصالحهم ورؤاهم: الجيش والإخوان، في حين استمرت الطبقة الحاكمة في لعبة الكراسي الديمقراطية حتى استيقظوا في 1952 على ضباط الجيش وهم يلمون الكراسي. والباقي معروف.

من يومها عاد أنصار الديمقراطية للخانة القديمة: الحلم بتنوير الأغلبية الجاهلة أو بإرشاد المستبد صاحب النوايا الطيبة والتفكير المحدود. ومنذ الثمانينات ودخول الإخوان مجال العمل المدني، انضمت خانة جديدة وهي “التحالف الواسع” الذي سيحمل الديمقراطيين إلى الحكم على أكتاف الإخوان. لا حلم التنوير تحقق (لأن أصحابه ليس لديهم القوة اللازمة لفرضه بالعافية على الدولة وبقية المجتمع) ولا حلم إرشاد المستبد الطيب نفع (لأنه مستبد)، ولا مشروع التسلق على أكتاف الإخوان كان منطقيا (لأنهم ليسوا مغفلين). وصحونا، في 2012 ثم في 2014، على ملمس القاع ونحن نرتطم به. مرحبا بنا في ساعة الحقيقة.

والآن، ونحن في هذا القاع الكئيب، أمامنا أمر من ثلاث:

الأول: أن نستسلم لعجزنا المزمن، فيهاجر من استطاع منا إلى بلاد ديمقراطية يعيش فيها، ويقبل من يبقى منا في مصر بالحكم الاستبدادي عمليا في حين نردد أحلامنا الديمقراطية على المقاهي والبارات وفي الأشعار والكتابات التي تعكس “إحباط المثقف العربي المأزوم”.

الثاني: أن نحترف دور المحلل، مرة للإسلاميين كي يبدون ديمقراطيين أمام المجتمع الدولي ويقبلهم، ومرة للعسكريين كي يعطوا العالم انطباعا بأنهم يشاركون في حكم مدني ويجعلوا مساندتهم أقل جلبا للفضيحة. وفي أي من الحالتين نقبض ثمن دور المحلل هذا في شكل تفاهات تليق بنا.

الثالث: أن نبني قوتنا السياسية المستقلة وتصوراتنا للحكم شيئا فشيئا، بأهداف طموحة وخطوات واقعية، دون تحالف مع قوى سياسية أخرى أو محاولات استنصاحية للقفز على كتفها. نبني قوتنا، وحدنا، برؤية بعيدة المدى وبخطط للطواريء، حتى نقف على قدمينا مثل أي قوة سياسية بنت نفسها في العالم كله.

ولماذا سننجح؟ لأننا الأغلبية في هذا البلد.