كن صريحا: هل تريد الديمقراطية فعلا؟

أم هي أداة لتحقيق هدف آخر أقرب إلى قلبك؟

على سبيل المثال، إن كنت تعتقد بضرورة توحيد الصفوف خلف مشروع قومي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة، وترى أن مصلحة الجميع واحدة لا يخرج عنها إلا الخونة والمنتفعين، وأن الدولة مسئولة عن إطعام المواطنين وكسوتهم وتوظيفهم وإسكانهم وعلاجهم وتعليمهم وتوفير الدخل لهم وتشكيل وعيهم و”إعادة بناء الانسان”، فاعلم أن هذا اسمه الحكم الشمولي، مثلما كان الحال في الاتحاد السوفيتي أو في مصر أيام عبدالناصر، حتى لو أتى بالانتخابات وتداولت قياداته السلطة مثلما يحدث في الصين.

Egyptian president Gamal Abdel Nasser waves to the crowds in Mansoura, Egypt, on May 7, 1960.

وإن كنت تعتقد بجهل الأغلبية وضرورة تعليمها وتنويرها قبل السماح لها بالمشاركة في اتخاذ القرارات الكبرى، وأن مسئولية الحكم يجب أن تكون في يد نخبة مستنيرة في حين يقتصر دور الأغلبية الجاهلة على تعبئتها للمشاركة في الانتخابات والمظاهرات، فاعلم أن هذا اسمه حكم النخبة سواء كان سلطويا ليبراليا مثل حكم أتاتورك وشاه ايران رضا بهلوي، أو تداولت النخب الحكم بينها بالانتخابات مثل مصر في “الحقبة الليبرالية” (١٩٢٣-١٩٥٢).

وإن كنت ترى أن معتقدات الأغلبية لها أولوية على حقوق الأفراد، ومن ثم لا يجوز لأحد رفض “الحدود الشرعية”، أو ممارسة الدين بشكل يتنافى و”المعلوم من الدين بالضرورة”، أو الجهر بالإفطار أو باختياراته الجنسية، أو انتقاد الذات الإلهية والردة عن الدين بأكمله، فاعلم أن هذا اسمه الحكم الإسلامي لا الديمقراطية، حتى لو أتى هذا الحكم بالانتخابات مثل الجمهورية الإسلامية في إيران.

الديمقراطية نظام آخر تماما، لا يجمعها بهذه النظم سوى عنصر تداول السلطة بالانتخابات. لكن مايميز النظام الديمقراطي هو ثلاثة أمور أخرى: التعددية، تقديس حريات الفرد وحقوقه، وقيادة المجتمع للدولة.

التعددية تشمل المصالح والرؤى. فالديمقراطية نظام سياسي يقوم على الإقرار بتعدد المصالح في المجتمع، بين الأغنياء والفقراء، الليبراليون والمحافظون، الأقليات العرقية والقومية والدينية والجهوية وأغلبياتها، وهكذا. الديمقراطية تقبل بشرعية تعدد المصالح، وبشرعية الصراع بين أصحاب هذه المصالح. لا يهدف النظام الديمقراطي إذا للقضاء على صراع المصالح هذا، وإنما لتوفير إطار سلمي ومعقول لإدارته. ولا يضمن عدالة نتيجة هذا الصراع؛ فالطرف الأضعف سيخرج غالبا بنتيجة أقل مما يرضيه. فعلى سبيل المثال، يتمتع الأغنياء وأصحاب رأس المال بميزة واضحة على الطبقتين الفقيرة والمتوسطة، وكثيرا ما ينتصرون عليهم. وهذا جزء أصيل من النظام الديمقراطي: يعطي القوى الاجتماعية الأضعف فرصة للدفاع عن مصالحها لكنه لا يضمن حمايتها بالكامل. كلما كان النظام ديمقراطيا كلما أعطى فرص أكبر للقوى الأضعف، لكن النتيجة في نهاية الأمر تعتمد على قوة كل طرف ومهارته في استغلال النظام لخدمة مصالحه.

Image result for fortune magazine cover

التعددية تعني أيضا احترام حق الجميع في اعتناق الرؤى التي تعجبهم دون افتراض صحة إحدى هذه الرؤى وخطأ غيرها. وبالتالي ليس هناك عقيدة رسمية للدولة الديمقراطية سوى الديمقراطية نفسها، أي سوى توفير إطار لإدارة التعددية الفكرية. فالقوى المحافظة والقوى التحررية (أو سميهم كما شئت) مستمرة في تقطيع بعضها حول نفس الموضوعات التي نتصارع حولها في مصر: معنى المساواة وحدودها، الحريات الفردية والقيم العائلية والدينية والقومية، حقوق الأقليات والأغلبيات، دور الدولة في إدارة السوق ومقتضيات العدالة الاجتماعية، الى آخره. ليس من وظائف النظام الديمقراطي التوصل الى الحقيقة في أي من هذا، وإنما تنظيم الصراع الفكري والاجتماعي بشكل سلمي يضمن أكبر قدر ممكن من الحرية ويحمي التعددية نفسها.

Image result for trump meets obama

وأكبر حماية للتعددية تأتي من العنصر الثاني للديمقراطية وهو تقديس الحقوق والحريات الفردية وتقديمها على غيرها. هذا هو الانحياز الليبرالي للنظم الديمقراطية (وسبب تسميتها بالديمقراطية الليبرالية). ويعني ببساطة أن الأغلبية لا يحق لها قمع حرية فرد أو استلاب حقوق أقلية لمجرد أنها كسبت الانتخابات أو تحت دعوى احترام معتقدات الأغلبية. هذا هو ما يحمي النظام الديمقراطي من الانزلاق لطغيان الأغلبية. طبعا هناك حدود للحريات الفردية، مثل رفض التحريض على العنف أو الكراهية أو الاعتداء على حقوق الغير، وهناك اعتداءات على الحريات والحقوق الفردية تحت مسميات مختلفة، لكن كلما كان النظام ديمقراطيا أكثر كلما مال نحو توسيع الحريات الفردية على حساب ما تراه الأغلبية صوابا. وفي هذا الإطار يأتي احترام الانشقاق dissent، كما يأتي من هنا تقديس حرمة الحياة الخاصة: فالديمقراطية نظام للحياة العامة، لا تقول لأحد ماذا يفعل في حياته الخاصة – يتدين أو يلحد، ينام مع امرأة أو رجل أو الاثنين، يسهر الليل أو ينام بدري، الخ.

Image result for gay parade

وأخيرا الديمقراطية نظام يسمح للمجتمع (المتعدد، المتصارع) بالسيطرة على الدولة وليست أداة تسيطر بها الدولة على المجتمع. ينطبق ذلك على الاقتصاد والسياسة والدين والأخلاق والثقافة وبقية المعاملات الاجتماعية. ولأن النظام الديمقراطي إطار لتنظيم صراع قوى المجتمع على الحكم، فبالتالي كل تصرفات الدولة – المتعلقة بالقانون، بالاقتصاد، بالثقافة، بالدين – تعكس مصالح التحالف الحاكم ورؤاه، والتي لا يحدها سوى احترام حقوق الأفراد والأقليات وحرياتهم. من هنا يمكن للدولة الديمقراطية التدخل في المجال الاقتصادي أو الأخلاقي أو الديني أو الثقافي بدرجات متفاوتة حسب مصالح ورؤية التحالف الحاكم. فيمكن أن تكون دولة ديمقراطية اجتماعية مثل السويد، أو ديمقراطية نيوليبرالية مثل الولايات المتحدة حاليا، ويمكن أن تكون ديمقراطية محافظة مهتمة بالدين حين يحكمها تحالف يميني محافظ أو تكون ديمقراطية تحررية حين يحكمها تحالف ليبرالي. الأقوى في المجتمع هو الذي يعطي الدولة الديمقراطية لونها، لا العكس. وفي كل الحالات، يبقى احترام حقوق الأفراد والأقليات وحرياتهم حائط سد ضد الانزلاق بعيدا في طغيان الأغلبية.

وطبعا لا تطبق قواعد الديمقراطية بشكل كامل؛ فلا الحريات كاملة ولا التعددية مصانة تماما، ولا يخلو الأمر من سيطرة قوة اجتماعية على الدولة وفرضها لمصالحها ورؤاها. كما لا تخلو الديمقراطية من أزمات – بعضها دوري كصعود الفاشية وبعضها مستحدث كأزمة الحكم الحالية في أوروبا وأمريكا. فالديمقراطية ليست وصفة سحرية للحرية والعدالة والسعادة الأبدية وإنما نظام سياسي مفتوح ينظم الصراع الاجتماعي وفقا لقواعد معينة، لكن احترام هذه القواعد مرهون بدرجة التوازن بين قوى المجتمع؛ فإن انتصرت القوى المناوئة للديمقراطية أضعفت هذه القواعد أو غيبتها.

Image result for racial discrimination in america

إذا الديمقراطية ليست بالضرورة أداة لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تحلم بها شعوب العالم الثالث. يمكن أن تكون هذه الأداة إن انتصر تحالف اجتماعي يسعى لتحقيق ذلك، ولكن سيحد من قدرته على تنفيذ مشروعه ضرورة حماية حقوق الأفراد والأقليات وحرياتهم ومقاومة فئات المجتمع الأخرى التي تتعارض مصالحها ورؤية التحالف الحاكم للتنمية. ومن ثم إن كان هدفك الرئيسي هو تنمية الاقتصاد وتحسين الخدمات وبناء قوة الدولة إزاء العالم الخارجي وكسر أي مقاومة لبرنامج التنمية هذا والتغاضي – ولو مؤقتا – عن حقوق الأفراد والأقليات وحرياتهم فعليك بالصين الشعبية والناصرية وما إلى ذلك.

Image result for homelessness in america

الديمقراطية ليست أيضا أداة لنشر القيم الليبرالية أو الحد من انتشار القيم والأفكار المحافظة والرجعية. فعلى عكس ما قاله أحد ظرفاء السلفية، لن تؤدي الديمقراطية لتقليع أمه الحجاب. لأن احترام حقوق الأفراد والأقليات وحقوقهم تشمل القوى المحافظة والسلفية أيضا. والنظام الديمقراطي يسمح للقوى المحافظة بالدفاع عن مصالحها ورؤاها. ومن ثم إن كان هدفك قيام الدولة بنشر “التنوير” بالعافية، فعليك بالأتاتوركيه والبهلويه وما شابهها.

Image result for black population incarcerated

ولا الديمقراطية أداة للقضاء على الرأسمالية بل لترويضها – وذلك في أحسن الأحوال. لأن القوى المسيطرة على السوق أقوى من بقية القوي الاجتماعية وأقدر منها على الدفاع عن مصالحها. ولأن طبيعة النظام الديمقراطي تتنافى وقيام الدولة بفرض تغييرات اجتماعية كبرى بالقوة. كل ما يمكن الطموح لتحقيقه في هذا المجال هو تقوية سيطرة المجتمع علي السوق (الرأسمالي)، والعمل على تضييق الفجوات الاقتصادية والاجتماعية وزيادة درجة العدالة الاجتماعية الى آخر ما يفصل الديمقراطية الاجتماعية عن النيوليبرالية. أما إن كان هدفك الإطاحة بالرأسمالية وبناء عالم جديد، فعليك بأحد الأحزاب الشيوعية التي تعمل على ذلك منذ نشأة الرأسمالية.

Image result for manif de cgt

الخلاصة أن اختيار الديمقراطية يعني اختيارك لنظام حكم يهتم بحريات الجميع بما في ذلك من تكرههم، لا حريتك أنت فقط. ويعني اختيارك لنظام حكم يسمح للجميع بالمنافسة وحماية مصالحهم بما في ذلك هؤلاء الذين تحلم بالقضاء عليهم. واختيار الديمقراطية لا يعني أننا سنصبح في قوة الصين أو في رخاء السويد، بل اننا سندير حياتنا العامة بشكل نشترك فيه جميعا، لا أكثر ولا أقل. فقبل أن تتسائل إن كان في مصر قوى ديمقراطية حقيقية أم لا، أو إن كان عصر الليمون على الإخوان أو التحالف مع العسكر من شيم الديمقراطيين أم لا، أو كيف نبني نظام ديمقراطي في ظل الديكتاتورية العسكرية، أو أي من هذه الأسئلة العظيمة، إسأل نفسك أولا: هل تريد الديمقراطية فعلا أم أنك تريد شيئا آخر وتظن الديمقراطية طريقك إليه؟ من حقك تفضيل الحكم الإسلامي أو الشمولي أو النخبوي، دوت توتر أو اتهامات لغيرك أو دفاع عن نفسك. فقط كن صريحا، فإجابتك – الأمينة الصريحة – ستسهل مناقشة بقية الأسئلة.