هل نستطيع مواجهة ثلاث مشاكل في نفس الوقت أم أننا كائنات أحادية الخلية؟

نحن أمام ثلاث مشاكل مترابطة: الاستبداد، والفقر، وفشل الدولة. تركيز جهدنا كله على إسقاط الحاكم المستبد لن ينتج عنه حل المشكلتين الأخرتين، بل ولن ينتج عنه إنهاء الاستبداد لأن الفقر وفشل الدولة سيدفعانا في حضن الاستبداد مجددا.

الاستبداد مشكلة لها أصولها المستقلة عن الفقر وعن فساد الدولة، وكما يقول الكواكبي فإن أي حكومة تنزع الى الاستبداد ولا يردها عن ذلك إلا قوة من يعارضها، حتى “ملوك الإنكليز الذين فقدوا منذ قرون كل شيء ما عدا التاج، لو تسنى الآن لأحدهم الاستبداد لغنمه حالا” (طبائع الاستبداد، الفصل الأول). لكن الفقر وفساد الدولة يقويان الاستبداد ويرسخان جذوره، بحيث يصبح مع الوقت النظام الوحيد القادر على إدارة حياة المجتمع. هذا ليس تبريرا للاستبداد ولا دعوة لقبوله، هذا شرح لمدى ترسخه.

أي نظام سياسي عليه مهمة توزيع الموارد المحدودة للدولة (لنسميها الفتة القومية) على طوائف المجتمع. وكل نظام سياسي ينحاز لطائفة ما أكثر من غيرها: للأغنياء أو للفقراء، لسكان المدن أو الأرياف، لمجموعة عرقية أو دينية، الخ. كلما كان النظام ديمقراطيا، كلما مكن هذه الطوائف من الدفاع عن نصيبها من الفتة بشكل آمن وناجح. مؤسسات الدولة الديمقراطية (كالبرلمانات والنقابات والأحزاب) هي الوسائل التي تستخدمها طوائف المجتمع للدفاع عن نصيبها من الفتة. إن كنت عاملا وترى أن رجال الأعمال يسرقون نصيبك العادل، تنخرط في نقابة وربما حزب وتسعى من خلال الانتخابات والإضرابات المنظمة لزيادة نصيبك من الفتة، وهكذا.

لكن النظم المستبدة تعتمد على نظام آخر لتوزيع الفتة، يمكن تسميته بنظام “ولي النعم”.  في هذا النظام، يوزع ولي النعم الفتة على اتباعه مقابل ولائهم وخدماتهم. الفتة قد تأخذ صورة انفاق حكومي على أمور تهم الاتباع، توفير وظائف للعيال، تخصيص شقق ومصايف ونوادي وأراضي بأسعار مخفضة، الى آخره. مقابل هذا، ولاء وخدمات من الأتباع، ابتداء من الالتزام بتعليمات ولي النعم إلى الاحتشاد في مظاهرات التأييد والرقص أمام اللجان على أنغام “بشرة خير”. ولي النعم الأكبر هو رئيس الدولة، لكن أتباعه هم بدورهم “أولياء نعم” لأتباع آخرين، وهكذا في سلسلة متشعبة حتى أتفه غفير في أصغر نجع في مصر. شبكة متكاملة ومتماسكة تدير الفتة بين الجميع بنسب متفاوتة وتضمن ربط الجميع بالنظام.

كلنا تم إدماجنا في شبكة ولي النعم، عمال وفلاحين وطلبة، موظفين ورجال أعمال وأصحاب مهن حرة: نقابة تنشأ قرية سياحية ونظام علاجي وثلاجات بالتقسيط – من الذي يدفع الفارق؟ ميزانية الدولة، مقابل ماذا؟ مقابل ولاء النقابة والتزامها بالخط الذي رسمه ولي النعم، والعمل المخلص الجاد على احتواء أعضاء النقابة والحيلولة دون “شططهم”. اتحاد نقابات عمال مصر خير مثال على هذه العلاقة العظيمة التي قام عليها الاستقرار السياسي للبلاد منذ سبعين عاما. “الحظيرة” – كما يسميها مثقفوا وزارة الثقافة مثال آخر، وهكذا.

أما من لا يفهم نظام ولي النعم، أو من تسول له نفسه الخروج عنه، أو من لا يعجبه نصيبه من الفتة فيقل أدبه فتتكفل به الأجهزة الأمنية بالقدر المطلوب المناسب من القمع: من “اللبيب بالإشارة يفهم” إلى الضرب في الشوارع وتلفيق القضايا والتعذيب.

القمع وفتة ولي النعم صنوان متكاملان، والمستبد العاقل يفضل توزيع الفتة على القمع، لأنه أكثر سلاسة وأقل إزعاجا للجميع ويجعله يبدو في دوره الأحب الى قلبه: الأب الحنون الذي لا يعرف كيف يرضي أطفاله الكثيرين: “المنحة ياريس”، فيهز رأسه في رضا حقيقي ويبتسم وهو يعلن منحة عيد العمال، وينصرف الجميع في حبور: العمال شاكرين لولي النعم على فتته السنوية، وهو راض عن الأولاد، أسرة سعيدة تتشارك في الفتة.

المشكلة أن جرمق الفتة صغير ويزداد صغرا. الجرمق صغير أصلا، والدولة الفاشلة فاشلة، فلم تستطع تكبيره رغم الفتي اللانهائي في الاقتصاد والتحايل على الواقع المر عبر سبعين عاما من الحكم العسكري الذي لا يعطي العيش لخبازه. ولما فشلت الدولة في تكبير الجرمق حاولت تقليل معدل الزيادة السكانية، لكن لأنها دولة فاشلة فقد فشلت في ذلك أيضا. ومن ثم أصبحنا ١٠٠ مليون نسمة ومعنا جرمق يمكنه اشباع ١٠ مليون بالكثير. ومن هنا المقولة الخالدة للرئيس مبارك “أجيب منين؟” والمقولة الخالدة للرئيس مرسي “نحن الآن في منحدر الصعود” والمقولة الخالدة للرئيس السيسي “مش قادر أديك”.

حين تقل قدرة نظام ولي النعم على توزيع الفتة يهتز الاستقرار. يقل التزام الناس برضا ولي النعم، ويزداد ميلهم لقلة الأدب، ومن ثم يزداد احتياج ولي النعم لاستخدام القمع. ولكن حين تقل قدرة الدولة الاستبدادية على توزيع الفتة وعلى القمع تنهار. قولا واحدا. وهو ماحدث في ٢٠١١. المشكلة ان الشعب الذي ينزل للميادين مطالبا بالفتة “لا يجد من يحنو عليه”، أي لا يجد من يقدم له مايكفي من الفتة، لأن الجرمق صغير وتكبيره تحدي عويص ويحتاج وقتا طويلا. ومن ثم يظل الناس يطالبون بالفتة في الشوارع حتى يفهموا ان مفيش فتة، وان الموضوع كله كلام في كلام، فيعودون لولي النعم لأنه على الأقل يضمن الأمن ويعرف كيف يدير الفشل الذي لا يبدو أنه سيتغير.

إذا، علينا البحث عن حل لمشكلة نقص الفتة المزمن ومشكلة فشل الدولة. نقص الفتة مشكلة مزمنة وعويصة. فساد الثلاجة – أو ما يعرف بفشل الدولة – مشكلة عويصة أخرى ومزمنة. والاستبداد طبعا مشكلة عويصة ثالثة. ما أحاول قوله هو أننا لا يمكننا حل إحدى هذه المشكلات دون حل المشكلتين الأخريتين. زوال الاحتلال البريطاني لم يؤد لنمو اقتصادي وقيام دولة ناجحة. إزالة آثار العدوان الإسرائيلي لم يؤد لنمو اقتصادي وقيام دولة ناجحة. إنهاء حالة الحرب وتحقيق “السلام” لم يؤد لنمو اقتصادي وقيام دولة ناجحة. الإطاحة بمبارك لم تؤد لنمو اقتصادي وقيام دولة ناجحة. الإطاحة بمرسي لم تؤد لنمو اقتصادي وقيام دولة ناجحة. الإطاحة بالسيسي لم تؤد لنمو اقتصادي وقيام دولة ناجحة. الإطاحة بقتادة أبو مصعب لم تؤد لنمو اقتصادي وقيام دولة ناجحة. والإطاحة بخالد على لم تؤد لنمو اقتصادي وقيام دولة ناجحة. كلهم كانوا حكام مستبدين ويستحقون الإطاحة بهم، لكن استبدادهم هو مشكلة واحدة والإطاحة بهم لا يؤدي لحل المشكلتين الأخريتين.

الشيء الوحيد الذي يؤدي لنمو اقتصادي وقيام دولة ناجحة هو التنمية الاقتصادية وبناء دولة ناجحة. وهذان الأمران يحتاجان لنظام ديمقراطي، لكن ولادة واستمرار النظام الديمقراطي تحتاج لتنمية اقتصادية وبناء دولة ناجحة. لا يعني هذا اليأس، بل يعني ضرورة البحث عن حلول للمشكلات الثلاثة في نفس الوقت. وهذه مهمة من يدعون للديمقراطية والحرية. ليس المطلوب منهم التخلي عن دعوتهم للحرية، لكن المطلوب أن يبذلوا قدر مساو من المجهود في البحث عن حلول لمشكلة ضعف الاقتصاد وفشل الدولة. لن تحل أي من هذه المشكلات بمفردها ولا نتيجة للإطاحة بحاكم مستبد. هذه المشكلات الثلاثة مترابطة، ولها جوانب فنية وجوانب سياسية. ومن ثم لا يمكن حلهم دون مجهود واع ومنظم وطويل النفس من القوى السياسية الساعية لتحقيق مطالب العيش والحرية والعدالة الاجتماعية. بدون ذلك سيتحول هذا المطلب الى أغنية نرددها مع “يالميدان”.