حادثة القطار وقطار الحداثة

لماذا تقل نسبة “الحوادث” في المجتمعات الحديثة عن نظيرتها في المجتمعات – لامؤاخذة – المتخلفة؟

من ٢٥ عاما اشتريت سيارة صغيرة. كنت في منحة دراسية بكندا ومواردي محدودة جدا، لكن ولادة طفلي الثاني جعلت السيارة أمرا ضروريا. عند التقاطع الصغير بجوار البيت علامة “قف”. لم يكن في الشارع غيري، هدأت السرعة احتياطا ثم عبرت التقاطع. فجأة ظهرت سيارة شرطة وأوقفتني. بعد فحص أوراقي ورخصة السيارة سألني الشرطي:

  • هل تعرف لم أوقفتك؟
  • لا
  • أنت لم تتوقف عند علامة “قف”
  • لقد توقفت، “تقريبا”
  • ليس هناك تقريبا. القانون يقول عليك التوقف بالكامل: العجلات الأربع يجب أن يصلوا لوقوف كامل
  • لكن ليس هناك أحد بالشارع، أبدا، هذه منطقة مهجورة وانت ترى بنفسك: ليس هناك سيارة واحدة
  • هل ترى هذه العلامة؟ هل تقول “قف حين يكون هناك سيارات أخرى؟”
  • لا
  • اذا عليك التوقف بالكامل كما ينص القانون
  • –      ….
  • الغرامة ٢٠٠ دولار
  • –      ….
  • هذه أول مخالفة لك، ومن ثم سأتركك تذهب بدون غرامة، لكن هذا تحذير: لا تكررها.

دفع ٢٠٠ دولار كان كارثة: فالمنحة التي أعيش عليها أنا وزوجتي وطفلين ١٢٠٠ دولار شهريا. شكرت الشرطي، ومن ساعتها أتذكره في كل مرة أعبر فيها تقاطع، بالذات في المناطق الهادئة. مع الوقت تعودت على الوقوف الكامل، وأصبحت أنتظر شعور ارتداد السيارة عندها. مع الوقت أصبح الوقوف التزاما شخصيا، كأني أحيي القانون والتزامي به. لكن في مكان ما في ذهني، يظل الخوف من دفع الـ٢٠٠ دولار.

في العام الماضي زارتني صديقة انتقلت مؤخرا للإقامة في الولايات المتحدة. عند تقاطع صغير بقرب البيت أوقفت السيارة بالكامل حتى شعرت بارتدادها، ثم استكملت الطريق. سألتني بدهشة:

  • لم تقف؟ لا يوجد أحد بالشارع غيرنا!
  • هذا هو القانون
  • لكن ما الفارق بين التوقف الكامل والتهدئة
  • الفارق هو الالتزام بالنظام من عدمه

(ثم حكيت لها حكايتي القديمة مع الشرطي الكندي)

  • بصراحة لا أفهم تحبيك الأمور هذا. الشارع فاضي: يجرى إيه لما تهدي وتكمل!

الفارق بين نظرة الشرطي ونظرة صديقتي لعلامة “قف” هو الفارق بين المجتمعات الحديثة والمجتمعات المتخلفة (مع الاعتذار للصديقة العزيزة).

أحد سمات الحياة الحديثة اعتمادها الكبير على “نظم الخبرة”[1]. وهذه عبارة عن مجموعة من الإجراءات والترتيبات المستندة لمعرفة علمية تمت تجربتها بنجاح. المصعد الكهربائي مثلا نظام خبرة: يقوم على مجموعة من المعارف العلمية الخاصة بالوزن والحركة والطاقة الكهربائية التي تم اثبات صحتها جميعا بالتجربة. وبناء عليها تم تصميم نظام خبرة متكامل يجمع هذه العناصر ويوظفها لتحقيق هدف محدد وهو نقل الأجسام إلى أعلى وأسفل بضغطة على زر.

كي يقدم انسان عاقل على دخول علبة صغيرة من المعدن تقذفه عشرات الأدوار في ثوان، يجب أن يثق في نظام الخبرة هذا. يثق في صحة المعارف القائم عليها المصعد، وفي التزام من صنعوه بالإجراءات السليمة، وفي التزام من يشغلونه بإجراءات التشغيل الآمن، وفي التزام من يتولى صيانته بتنفيذ التزاماتهم، وفي أمانة ودقة جهة المراقبة التي منحت المصعد تصريح السلامة، الى آخره. هذه الثقة، في مجموعة من الناس المجهولين، هي التي تسمح بتقليل نسبة مخاطر استخدام هذه النظم. بدون هذه الثقة، لا يمكن لأحد أن يدخل في طائرة أو قطار. نحن لا نفحص كل قطار أو طائرة نركبها، فعمليات الفحص والصيانة هذه تشكل “نظم خبرة” أخرى، ونحن نفترض أن أشخاصا اتبعوها، وبشكل سليم، ومن ثم نجلس في هذه الأشياء الطائرة ونحن نشعر بالأمان. هذه ليست ثقة في أشخاص محددة، بل في “النظام العام” للمجتمع.

في المجتمعات الحديثة تتسع نظم الخبرة والمراقبة والمراجعة لتشمل كل مناحي الحياة تقريبا، من الصحة الى التعليم الى التقاضي. لكني أود التركيز اليوم على القطارات والطائرات وما شابها. وسائل الانتقال الحديثة هذه كلها عبارة عن مجموعة مركبة من نظم الخبرة. هناك أولا نظم الخبرة التي تصنع هذه المركبات: كل جزء فيها نظام خبرة مستقل، من تكييف الهواء الى أجهزة الملاحة. وهناك نظم خبرة خاصة بالتشغيل: من تدريب السائقين الى نظم حجز المقاعد وتنظيف دورات المياه. وهناك نظم خبرة خاصة بصيانة كل هذا. وهناك نظم الخبرة الأهم: وهي مراقبة ومراجعة أداء كل هذه النظم.

هناك نسبة ما من المخاطرة في استخدام كل هذه النظم. فمن وقت لآخر يقع خلل ما في هذه النظم. تسقط الطائرة، أو يرتطم قطاران، أو تتوقف فرامل السيارة عن العمل بلا مبرر مفهوم. ساعتها، في المجتمعات الحديثة، تنهمك نظم خبرة أخرى مهمتها فحص سلامة نظم الخبرة القائمة في عملية مراجعة تهدف لاكتشاف الثغرة التي أدت للحادثة، سواء كانت بشرية أم آلية. هذا الفحص ليس واجبا وطنيا، ولا سعيا ديمقراطيا لمحاسبة المسئول – هذه أعراض جانبية. عملية الفحص والمراجعة هذه تهدف ببساطة لتحسين نظام الخبرة الذي تعرض للحادث وتقليل نسبة المخاطرة بحيث يقبل الناس على استخدامها. عملية المراقبة والمراجعة تشكل إذا جزءا أساسيا من الحياة الحديثة، ليس فقط لأنها الضامن لاستمرار الثقة – التي بدونها تنهار الحياة في المجتمع الحديث – وانما أيضا للمنافسة مع النظم القائمة واستحداث نظم خبرة أفضل أو أكثر جاذبية وثقة.

المجتمعات المتخلفة – مثلنا – وضعها مختلف.

نحن أولا لم نخترع نظم الخبرة التي نستعملها، بل استوردناها. وعندما أكرمنا ربنا صنعنا مثلها نسخا وتقليدا. وثانيا نحن عدلنا نظم تشغيلها بالفتي والاستسهال والاعتماد على حسن النوايا والتمنيات. وثالثا حين يحدث خلل في تشغيل هذه النظم نلتف من حوله ونغطي عليه. ورابعا نحن نترك هذه النظم تتداعى، ونشغلها حتى وهي تموت، ونحن معها.

كي يقود سائق قاطرة وحده وبدون مساعد، ويتركها ليعاتب سائق قاطرة أخرى، وأن يكون هناك سائق قاطرة أخرى في طريقه، وأن يترك الأول القاطرة التي يقودها دون فرامل، وأن يسحب الثاني قاطرته فتتحرك الأولى، وألا يكون هناك وسيلة لدى أي منهما للاتصال بجهة ما توقف القاطرة الشاردة، وألا يكون بالمحطة نفسها من يراقب دخول وخروج القطارات وسرعتها ويتحكم فيها عند اللزوم، كل هذا يعني أن عدد كبير جدا من “نظم الخبرة” المفترض وجودها غائب أو منهار. هذه ليست أخطاء بشرية، هذه نظم خبرة لا تعمل أو غير موجودة.

الأدهى من ذلك أن غياب الالتزام بقواعد تشغيل نظم الخبرة متفشي في المجتمع ككل: من الطيران حتى بالوعات المجاري، مرورا بكل شيء. لهذا تحدث في مصر حوادث غريبة أصبحت نادرة في المجتمعات الحديثة: الطفل الذي تبتلعه المجاري، الطفلة التي صعقها كابل الكهرباء، المطب الصناعي المباغت الذى أطاح بعشرات السيارات في القاهرة الجديدة، قائد الطائرة الذي كان يعد قهوة في الكابينة، بوابات الأمن التي تصفر في المطار بلا رد فعل، إلى آخره. وليس في هذا مفاجأة لأحد. لا عجب أن يكون مستوى ثقة الناس في النظام العام منخفضا، وأحيانا منعدم.

تغيير هذا الوضع لا يتم فقط بتغيير وزير النقل ورئيس هيئة السكك الحديدية. تغيير هذا الوضع لا يكون فقط بالعثور على مليارات الدولارات من أجل ميكنة وكهربة شبكة السكك الحديدية. تغيير هذا الوضع يتطلب أكثر من ذلك بكثير: يتطلب التخلي عن الفتي والاستسهال، والعواطف بأشكالها، والتمنيات. وبدلا من كل هذا، التمسك بالإجراءات فيما نفعله لدرجة الإيمان، حتى لو بدت هذه الإجراءات زائدة عن الحاجة أو غير ضرورية.

المجتمعات الحديثة لا تلتزم فقط بقواعد نظم الخبرة لكنها تخلقها خلقا. إن لم نكن قادرين على اختراع طائرات أو قطارات أو سيارات أو حتى نظم مرور، فعلى الأقل نلتزم بقواعد تشغيل نظم الخبرة التي استوردناها. كل المطلوب منا التمسك بإجراءات التشغيل دون اجتهادات. أن نكون مثل السائق الذي يقف عند إشارة مرور في نصف الليل في تقاطع لا أحد به سواه، أو مثل عابر الطريق الذي يتوقف في انتظار إشارة عبور المشاة في شارع قفر.

لكن هذا لا يحدث بالدعوة والموعظة الحسنة فحسب؛ تغيير سلوك الناس لا يتم بمجرد دعوتهم لتغيير سلوكهم، بل بخلق نظم تجبرهم على ذلك، على أمل أن يؤدي الخوف من العقاب لتعودهم على الالتزام، تماما مثل حالتي مع الشرطي الكندي. وهذه وظيفة السلطات العامة: فرض التدريب وصرامة العقاب للمخالفين، بلا هوادة أو “رحمة”، لأن حياة الناس كلها تعتمد على الالتزام بقواعد تشغيل نظم الخبرة هذه. في مجتمع مركب يمكن لخطأ واحد أن يقتل المئات. والتغاضي والتسامح يقود لكوارث أفدح من عقاب من لا يلتزم بصرامة قواعد التشغيل. السائق الذي “نسي” الفرامل فقتل وجرح العشرات لا بد وأن تدريبه غير مكتمل، ولا بد وأنه قد نسي الفرامل من قبل عدة مرات. ومساعده الذي لم يكن معه، لابد وأن هذه ليست أول مرة يختفي فيها. والسائق الذي قطع طريقه، لا يعقل أن هذه كانت أول مرة يفعل فيها ذلك. لو كان هناك نظام خبرة صارم للتدريب، وللمراقبة، لما حدث كل هذا. وهكذا لكل شيء: من القطارات للمستشفيات للسجون والمحاكم والري والتعليم والاسكان.

احترام قواعد وإجراءات تشغيل نظم الخبرة، ومتابعتها ومراقبتها بغرض تحسينها، ليس فقط أساس لنجاح المجتمعات الحديثة، بل ضمان لنجاتها من الكوارث. المسألة ليست موقفا نظريا من الحداثة والتحديث، ولا مناقشة لكون الحداثة غربية أم باذنجانية، ولا كونها قطارا أم حلزونة (وهذه نقاشات حقيقية بين دارسي علم الاجتماع). المسألة اننا نستورد أشياء لها نظم تشغيل ومخاطر جمة، وعلينا تعلم كيف نشغلها وفقا لتصميمها ليس وفقا لمزاجنا وكسلنا وإلا قتلتنا مخاطرها.

إن كان هذا صعبا علينا، فلنعد للحمار والجمال والعربات التي تجرها الخيول – حفاظا على حياتنا. وقد يكون من الحكمة أن نفعل ذلك قبل استيرادنا لمفاعلات نووية.


[1] كما أسماها عالم الاجتماع أنتوني جيدنز

Expert system

ولمزيد من التفاصيل راجع كتابه

Consequences of modernity