في وجه السلطة الجائرة

كلما قرأت عن تنفيذ مزيد من أحكام الإعدام في مصر تذكرت أحد ضباط رئاسة الجمهورية. لم أقابله في حياتي، على ما أذكر، لكنه شن على حملة شرسة في ٢٠١٧ بعد إعادة نشري لمقال “نحن لا نقتل الأسرى” الذي أدعو فيه رئيس الجمهورية لاستخدام سلطته الدستورية في تعليق تنفيذ أحكام الإعدام، لقسوتها وتواترها وللشكوك التي تشوبها وانتفاء الحاجة اليها في آن واحد

كتب هذا الضابط وقتها عدة تعليقات – على صفحته في “فيسبوك” – تضم مزيجا من الإهانات والاتهامات واللعنات والتهديدات، ابتداء من الخيانة إلى مناصرة الإرهاب وبيع الذمة باليوروهات وانتهاء بــ “أيظن أنه سيفلت بفعلته؟” وفي نهاية تعليقاته – والتي تضمنت عشرات من التعليقات المؤيدة والتي تشير نصا لمقالي وتدعوه لاتخاذ إجراءات أكثر حسما إزائي – عزى الضابط الشاب نفسه بأن أحفاده سيذكرونه بالخير ويلعنون الخونة من أمثالي. وفور نشر الضابط لهذه التعليقات، قام مندوبوا الأمن في وسائل الإعلام بترديد مضمون هذه التعليقات فيما لا يقل عن ١١ مقال و٦ برامج تليفزيونية.

ارتكب هذا الضابط خمس جرائم على الأقل: التشهير، إرهاب كاتب بسبب رأيه، التآمر مع آخرين للإضرار بالغير، تضليل الرأي العام، وإساءة استخدام السلطة الممنوحة له بحكم وظيفته. لكن الجريمة الأكبر من كل هذا هي المشاركة بالفعل والقول في دفع الدولة لإراقة دماء مواطنيها، أبرياء كانوا أم مذنبين، دون ضرورة أو مبرر سوى الاستجابة لعاطفة التشفي والرغبة في الانتقام، بما أهدر حياة العشرات، وأهدر قيمة القانون والعدالة، وجعل الدولة خصما للمواطنين بدلا من أن تكون حكما بينهم، فأضعفها وعرضها لمزيد من الهجمات بدلا من صيانتها وتقوية مركزها. ولا أظن أن أحدا سيحاسبه على أي من هذه الجرائم، لكن هذا ليس الموضوع. الموضوع أن هذا الضابط، رغم سيطرته على الاعلام، وامتلاكه القدرة على الترهيب والإيذاء الفعلي، لا يستطيع في نهاية الأمر منع كاتب مهما كان ضعيفا وأعزل من أن يقول قولة حق في وجه السلطة الجائرة.

بل أكثر من ذلك: إن آجلا أو عاجلا تزول السلطة الجائرة، وتبقى كلمة الحق.

في عام ١٨٩٤ قام الجيش الفرنسي بمحاكمة الفريد دريفوس بتهمة التجسس لصالح الألمان. لم يحظ دريفوس بمحاكمة عادلة نظرا لحالة العداء الشديدة التي سادت الجيش الفرنسي وقتها ضد المانيا (التي ضمت جزءا من الأراضي الفرنسية لها بعد هزيمتها لهذا الجيش). وكعادة المستبدين ضعاف النفوس، بدلا من أن يعالج العسكريون ضعف مؤسستهم صبوا غضبهم ولومهم على غيرهم: ألمانيا وكل من يختلف معهم. ديانة دريفوس اليهودية لم تساعده، وبرغم ضعف الأدلة أدين دريفوس، ورغم ظهور أدلة تبرئه تمسك القضاء العسكري بإدانة دريفوس لسنوات عديدة. لكن في منتصف سير القضية، في ١٨٩٨، كتب الروائي “إميل زولا” مقالته الشهيرة: “إني أتهم”، التي فضح فيها قسوة العسكريين وإهدارهم لمقتضيات العدالة اتباعا لأهوائهم. انتقم العسكريون من “زولا”، فحكم عليه بالسجن واضطر لمغادرة فرنسا سرا قبل القبض عليه.

لم يتمكن زولا من حماية العدالة، ولا تمكن طبعا من التصدي لبطش العسكريين – فكيف يمكن لفرد مهما كان أن يتصدى لمؤسسة مسلحة! زولا لم ينقذ دريفوس بمقاله، لكنه أنقذ شرف فرنسا. ففي كل مرة تذكر فيها هذه الأيام السوداء من تاريخ فرنسا يذكر الناس أن الفرنسيين لم يسيروا كلهم خلف جبروت العسكريين وغضبهم الأعمى، وإنما كان هناك رجال ونساء رفضوا، وعارضوا، وحذروا، وحاولوا وقف الاستبداد.

في أغلب الظن أن الضابط الذي أتحدث عنه سيمضي قدما، هو ومن يعاونهم، في إراقة دماء الناس – باستخدام القانون أحيانا وبالتحايل عليه عند الضرورة. لن أستطيع وقف تنفيذ أحكام الإعدام، ولن أستطيع وقف الاغتيالات والتصفيات والاختفاءات. بل لن أستطيع حماية نفسي إن قرر هذا الضابط ومن يعاونهم إلحاق الأذى بي – حتى وأنا أعيش خارج مصر. فالأذى سهل علي السلطة الجائرة التي انفك عقالها، ولا يمكن أن تدفع الأذى عن نفسك إن كان من يريد الإيذاء مصمما ويسيطر على أجهزة الدولة التي يفترض فيها حمايتك.

في كل حال سأموت وسيموت هذا الضابط، بطريقة أو بأخرى، لكن حين تأتي سيرة هذه الأيام السوداء التي عشناها سيذكر أحفاده وأحفادي أن مصر لم تسر كلها خلف سلطة العسكريين الجائرة وغضبهم الأعمى، بل وقف رجال ونساء وعارضوا الظلم وحذروا وتمسكوا بقيم الحرية والمساواة والعدالة. سيذكر أحفادنا هذا وينسون اسم الضابط، تماما مثلما نسيوا أسماء قضاة دريفوس.

سيذهب الضابط والكاتب، وتبقى كلمة الحق التي قيلت في وجه السلطة الجائرة.