صراحة السيسي وصمت منافسيه

د. عزالدين شكري فشير

يتميز الرئيس السيسي عمن سبقوه بصراحته وجرأة تصريحاته، فهو أول رئيس مصري يعترف علنا بأن مصر “ليست دولة حقيقية وإنما شبه دولة“، وبأننا “فقرا قوي، فقرا قوي“، وأن مصر “ليس فيها تعليم ولا صحة ولا إسكان ولا توظيف جيد”، وأنه لا يعرف كيف يوفر كل عام مليون وظيفة جديدة وخدمات صحية وتعليمية لمليوني مولود.

هذه التصريحات في غاية الأهمية، وللأسف يكتفي معارضوا السيسي بالسخرية منها دون الاهتمام بمحتواها. وهذا طبعا جزء من حالة الغضب العامة، والتي تجعل الكثيرين يرفضون أو يقبلون الكلام بناء على تقديرهم لقائله. لكن هذا الغضب يعمينا عن رؤية الواقع والتفكير فيه، وبالتالي يقلل من فرصنا الحقيقية في تحقيق حلم العيش والحرية والعدالة الاجتماعية. فعلى عكس ما يعتقد الكثيرون، من مصلحتنا، نحن أنصار ثورة يناير، التمعن في تصريحات الرئيس السيسي وأخذها بمنتهى الجدية، وخاصة ثلاثة جوانب منها

.

١. حقيقة الفقر

مصر دولة فقيرة فعلا، ليس فقط من حيث الموارد ولكن أيضا من حيث الثروة وحجم الاقتصاد ككل. ودون الدخول في مصطلحات عويصة، وبأبسط لغة ممكنة، تكمن مشكلة الفقر المصري المزمن في أن حجم القيمة التي نخلقها كل عام أقل بكثير مما ننفقه، وأقل بكثير جدا مما نحتاجه كي نحيا حياة كريمة. الخرافات الشعبية التي ترى أن مصر بلد غنية لكنها منهوبة، أو أن القضاء على الفساد يقضي على الفقر، أو أن تغيير الرئيس سيقضي على الفقر، أو أن إعادة توزيع الدخل وفرض ضرائب تصاعدية ومصادرة أموال ساويرس ستقضي على الفقر هي كلها خرافات شعبية لا أكثر ولا أقل، مثلها مثل اختراعات الطفل المنوفي وجهاز الكفتة.

مصر دولة فقيرة منذ قامت فيها دولة في العصر الحديث. وكل من حكمها عبر ٢٠٠ عام حاول تغطية الفجوة بين الناتج الإجمالي والانفاق الإجمالي – وبين الناتج الاجمالي و”الاحتياجات الحقيقية” – ولم يجد حلا مستداما. “محمد علي” لجأ للتوسع الخارجي فارتطم ببقية قوى العصر وكسروه. ابناؤه اعتمدوا على رشوة النخبة بالقليل المتاح وترك الأغلبية تموت في الفقر المدقع. “عبد الناصر” صادر ثروات النخبة لتمويل الانفاق على الأغلبية ولكن إعادة التوزيع هذه لم تكن حلا مستداما (واضطر لقبول معونات غذائية من أمريكا شخصيا). السادات اعتمد على المساعدات الخارجية وتبعه مبارك ومازلنا نسير في هذا الطريق. لكن لا أحد من هؤلاء جميعا وجد حلا للمشكلة الأصلية وهي ضآلة حجم الاقتصاد نفسه، أي فقر مصر الاجمالي

.

٢. العجز عن تغيير الوضع

الدولة التي عجزت عن مواجهة هذا التحدي في الماضي، تفاقم عجزها عبر مئة عام من ترهل مؤسساتها وتراكم فشلها وتضخم سكانها. الحسبة بسيطة: لو تذكرنا أن طه حسين كتب في ثلاثينات القرن الماضي في “مستقبل الثقافة في مصر” عن سوء التعليم وفشله، وكتب نجيب محفوظ عن تفشي المحسوبية في أجهزة الدولة في “القاهرة ٣٠”، وكتب إبراهيم أصلان وعبدالحكيم قاسم ويوسف ادريس عن تراكم فشل الدولة في الستينات، وكتب صنع الله إبراهيم في “ذات” عن تحلل أجهزة الدولة في الثمانينات، فماذا تظن حال الدولة الآن؟ مؤسسات هذه الدولة ترسخت فيها المحسوبية والفشل عبر قرن كامل. والقائمين عليها تعلموا على يد جيل هو نفسه محدود العقل والتفكير وفقا لوصف طه حسين منذ ٩٠ عاما. أي دولة بالله عليك هذه؟

نحن نواجه فقر مزمن، يتطلب مضاعفة حجم الاقتصاد ربما عدة مرات. وهذا يتطلب تغييرات جذرية في رؤيتنا للاقتصاد وكيفية إدارة قطاعاته ولعلاقة الفرد بالدولة، ولعلاقة الدولة بالسوق وطبيعة تدخلها في إدارته. هل هذه الدولة البائسة التي يديرها جهلة محدودي القدرات – “شبه الدولة” كما قال الرئيس السيسي – هي التي ستقوم بهذه التغييرات الجذرية الطموحة؟ مستحيل، لأن هذه الدولة نفسها تعيش بالتنفس الصناعي أو ببركة دعاء الوالدين. مؤسسات الدولة نفسها تحتاج تغييرات جذرية طموحة كي يمكنها أداء وظائفها الأصلية، فما بالك بأن تؤدي وظائفها وتغير أيضا الواقع من حولها وبشكل جذري؟ لا يمكن. ولهذا قلنا نحتاج تغيير النظام، نحتاج دولة جديدة. لكن هل نعرف كيف ستقوم الدولة الجديدة هذه (أي نحن) بمضاعفة حجم الاقتصاد؟ أم أننا سنطلب هذه الدولة الجديدة “دليفري” باقتصادها وسلطاتها؟ من أين ستأتي؟ وكيف ستأتينا وكل ما لدينا هو الرغبة فيها والغضب لغيابها؟

٣. ومن ثم ضرورة القمع

مادامت الدولة القائمة حاليا هي هي، والدولة الجديدة خيال في ذهن الحالمين بها، اذا لندع الخيال جانبا ونرى كيف تحمي الدولة القائمة نفسها. الدولة القائمة عاجزة عن حل المشكلة الاقتصادية الأصلية، وبالتالي عن خلق القيمة والثروة المطلوبة للحياة الكريمة التي يطالب بها الناس، والقائمين على أمرها يعرفون ذلك جيدا، ومن ثم ليس أمامهم سوى هذه الدولة البائسة إلا قمع المطالب الشعبية وتسكينها. لا أكثر ولا أقل. يمكنهم محاولة ادخال إصلاحات اقتصادية وإدارية هنا وهناك، لكن مهما كان طموح هذه المحاولات فلن تلبي الحد الأدنى من المطلوب لحل المشكلة. يمكنهم الحصول على مساعدات خارجية، لكن مهما بلغت هذه المساعدات فلن تلبي الحد الأدنى من المطلوب لحل المشكلة. الـ ٦٢٪ الذين يعيشون بأقل من خمس دولارات ونصف في اليوم لن يحصلوا على دولار واحد زيادة، لأن ذلك يحتاج أكثر من ٢٢ مليار دولار إضافية سنويا، أي أكثر من أربع قنوات سويس إضافية أو زيادة عائدات السياحة ضعفين، وكل ذلك من أجل دولار واحد زيادة في اليوم للفقراء. احسب انت الزيادة المطلوبة لرعاية صحية حقيقية، أو تعليم بجد، أو مواصلات آمنة، الى آخره.

هذه الأموال ليست معنا، ليس لدينا ما نبيعه كي نحصل عليها، ولا نصنع ما يوازيها من القيمة، ولا نقدم لأحد خدمات يعطينا هذه الأموال مقابلها. باختصار، نحن فقراء، لدينا مطالب وليس لدينا ما يمكنا من تحقيقها. وبالتالي، القمع ضروري لإخماد المطالب، لأنها مطالب لا يمكن الاستجابة لها ومن ثم فلن ينتج عنها سوى اضطرابات وانهيار الاستقرار وبالتالي مزيد من التدهور الاقتصادي (وعلى فكرة، الرئيس السيسي شرح هذه النظرية بوضوح في تعليقه هنا).

القمع اذا يقوم بوظيفة أساسية في حماية الدولة العاجزة، بدونه ستنهار

.

ومن هنا ردود الرئيس السيسي على منتقديه بسبب حقوق الانسان: حد يقول لي كيف أوفر مليون وظيفة سنويا؟ السؤال بلاغي، والرئيس يعرف إجابته: لا يمكن، وبالتالي فالدولة ستقمع المطالبين بالوظائف لتخرسهم لأنها لو تركتهم يطالبون بهذه الوظائف، فستتحول مطالبهم الى اضطرابات اجتماعية وسياسية لا توفر لهم وظائف ولا يحزنون وانما تؤدي إلى “هدم الدولة”. هذه هي نظرية “الحفاظ على استقرار الدولة” التي نسخر منها دون أن نعطيها حقها.

ولماذا يجب أن نعطي هذه النظرية حقها؟

لأنه لن يكون هناك عيش ولا حرية ولا عدالة اجتماعية في يوم من الأيام دون أن نجد حلا حقيقيا للمشكلة الأصلية التي تواجهها مصر منذ ٢٠٠ عام وهي ضآلة حجم اقتصادها وفشل مؤسسات الدولة في أداء وظائفها. إن كنت ترغب في حكم مصر، وفي تحويلها لديمقراطية عادلة اجتماعيا، فعليك أن تجد حلا حقيقيا لهذه المشكلة.

قد يكون هناك حلولا لدى الخبراء مثلما تزعم الخرافة الشعبية، لكن المهم هو نقل هذه الحلول من درج الخبراء المجهولين الى المجال العام. إن كنت ترغب في حكم مصر، إن كنت حزبا سياسيا أو تيار أو حركة أو مبادرة لها طموح سياسي، فيجب أن يكون ردك على تصريح الرئيس السيسي هو ورقة تشرح كيف توفر مليون وظيفة جديدة سنويا، وورقة تشرح كيف توفر خدمات تعليمية وصحية وسكنية لمليوني طفل سنويا، وورقة تشرح كيف تستغني عن المساعدات الخارجية وتواصل التوسع في الانفاق العام في نفس الوقت، وهكذا. وأن تكون هذه الأوراق حقيقية، يمكن تنفيذها لو تمكن حزبك من الحكم، أو لو قرر النظام الحاكم فجأة أن يسمع كلامك.

أما إن لم يكن لدينا حلولا لهذه التحديات، فلن نستطيع حكم مصر إلا كما تحكم الآن.

لو كان البرادعي أو ابوالفتوح أو صباحي كسبوا انتخابات الرئاسة، أو لو قامت ثورة جديدة وأطاحت بالسيسي والحكم العسكري كله وجعلت معبود الجماهير – أيا كانت هويته ساعتها – رئيسا، فكيف سيحقق المطالب التي نادى بها واقتصاد البلد لا يفي أصلا بالانفاق العام الحالي؟ وإن لم يكن لديه حل فعلي لهذه المشكلة – مثل كل من حكم مصر حتى الآن – فهل سيكون حكمه مختلفا أم سيلجأ هو أيضا للقمع ولكن – هذه المرة – باسم الثورة؟