مأساة الراديكالية وملهاة الإصلاح من الداخل

مهما بذل الراديكاليون من تضحيات فإنهم يفشلون في تحقيق أهدافهم ولا يستفيد من تضحياتهم سوى أعدائهم. أما المرابطون في دهاليز الدولة أملا في “إصلاحها من الداخل” فيموتون من الملل دون أن يستفيد أحد من موتهم، ولا حتى أعدائهم. المنهج الوحيد الناجح هو الإصلاح الجذري التدريجي الذي يجمع بين راديكالية الرؤية وواقعية التطبيق

الـ “الإصلاح من الداخل” مذهب عبثي ولكنه واسع الانتشار. وله أشكال متعددة، تدور كلها حول العمل داخل دهاليز الدولة، أو التمسح بأبوابها، أو إسداء النصح للقائمين على أمورها، بهدف إصلاحهم واصلاحها. هذا المذهب يقوم على جهل بمنهج عمل وتفكير القائمين على أمر الدولة. بداية، يفترض هذا المذهب أن العمل بمؤسسات الدولة المدنية معناه أنك “داخل الدولة”، وهو افتراض خاطيء تماما. “الدولة” ليست وزارة التجارة أو الاستثمار أو التعاون الدولي أو حتى المالية، هذه “إدارات” يقودها موظفون مدنيون بدرجات متفاوتة من الغفير للوزير. “الدولة” هي الأجهزة الأمنية ذات الطابع السياسي (أي ليس كل الأجهزة الأمنية، كونك ضابط في إدارة المرور أو الأحوال المدنية لا يعني أنك داخل “الدولة”). القائمون على الأجهزة الأمنية/السياسية هم أصحاب القرار في أجهزتهم وفي الإدارات التي “يقودها” الموظفون المدنيون. هؤلاء هم “أصحاب الدولة”، والباقي موظفين. وبالتالي كونك مدنيا تعمل في مؤسسة ما، ولو كنت وزيرا لهذه المؤسسة، لا يعني أنك تستطيع إصلاح أي شيء فيها، أو حتى إدارتها، دون موافقة ودعم أصحاب “الدولة”. كل ما تستطيعه هو “تقديم الاقتراحات”، طرح أفكار ورؤي، لعل وعسى يحالفك الحظ ويستمع اليك أحد منهم.

Related image

وهنا يكمن الخطأ المأساوي الثاني لمذهب الإصلاح من الداخل: الجهل بمدى جمود تفكير “أصحاب الدولة” وانغلاقه على عدد محدود من القوالب الجامدة، وتوجسه من المدنيين واقتراحاتهم، ورفضهم شبه الغريزي لأي أفكار مختلفة. إيمانهم بصحة تفكيرهم لا يهزه الفشل وإن كان بحجم هزيمة ١٩٦٧ أو سقوط نصف السكان في الفقر أو وصول الدولار الى ١٨ جنيه. الفشل في نظرهم مجرد نجاح غير مكتمل، وهو محتوم بسبب الظروف وكان ممكن أن يكون أسوأ لولا يقظتهم وستر ربنا، ثم اننا نتعلم منه ونضاعف الجهد في المرة التالية، فإن أصبنا فأجران وان فشلنا فأجر، وهكذا. هذا هو مايعرف في دراسات صنع القرار بفكر الجماعة. الأساس فيه هو الولاء للجماعة؛ أي مراجعة أو تشكيك في أفكارها ينظر اليه باعتباره تشكيك في الجماعة نفسها وكسرا للولاء لها. وبالتالي، ليس لدى “أصحاب الدولة” أي استعداد لمراجعة مناهج عملهم وأسسها أو الاستماع لما يخالفها إلا من باب الفضول وحسن الأخلاق – وهو باب لا يظل مفتوحا طويلا.

Image result for Groupthink

ما يسمى بالـ “إصلاح من الداخل” ليس إصلاحا ولا هو “من الداخل”، بل عبارة عن فقاعات من الكلام يلقيها أصحابها على جدران من الزجاج. “إصلاحيو الداخل” هؤلاء يشبهون “سيزيف” بطل الأسطورة الشهيرة مع فارق هام؛ أن هناك ضابط يحدد لهم متى يحملون الصخرة ومتى يضعونها، ومواعيد تسلق الجبل وسرعة خطواتهم المسموح بها، وفي النهاية طبعا تسقط الصخرة ويتحملون هم مسئولية السقوط. مع الوقت يتعلمون أن سقوط الصخرة محتوم، والضابط كذلك يعلم، ورئيسهم ورئيسه يعلمان، لكن الجميع لا يريد الإعتراف بذلك لأنه لا أحد لديه حل حقيقي لسقوط الصخرة، ومن ثم تصبح مسئولية الجميع التظاهر بأن الصخور تصل لقمة الجيل. وتصبح وظيفة الموظفين هي تجميل الواقع وترقيعه، أما الإصلاح فلا مكان له في هذا الداخل أبدا. 

على الناحية الأخرى، يحمل الراديكاليون صخرة سيزيف نفسها بنجاح منقطع النظير. وحين تسقط منهم، يعوضون فشلهم بقصائد الحزن والحنين الى ماض لم يوجد أبدا، في حين يستولي أعدائهم على السلطة. أما حين ينجحون في فرض رؤاهم بالقوة، يدفع المجتمع ثمنا فادحا لهذا “النجاح” ويئن تحت وطأته لدرجة تدفعه للانحياز لقوى “الثورة المضادة” التي تنقض على الراديكاليين وتأكلهم.

التاريخ مليء بأمثلة من هذا. في الثورة الفرنسية الأولى (١٧٨٩)، استولى الراديكاليون على السلطة وقتلوا الآلاف من خصومهم ثم من أنصارهم باسم الحرية والإخاء والمساواة، وبعدها بعشر سنوات سقطوا تحت بيادة العسكر بقيادة الجنرال بونابرت الذي أطاح بهم وبالنظام الجمهوري كله. في الثورة الفرنسية الثانية، عام ١٨٣٠، انتصر الراديكاليون لأسابيع قصيرة تلاها عودة اليمينين في الانتخابات وقضائهم على أحلام الراديكاليين. الثورة الثالثة، في ١٨٤٨، لم تكن أحسن حالا، إذ أعقب العام الراديكالي الأول نظام امبراطوري جديد. الثورة الأخيرة، كوميونة باريس الشهيرة في ١٨٧١، دامت لثمان أسابيع فقط لا غير قبل أن يسحقها النظام المتعاون مع الاحتلال الألماني.

كوميونة باريس: من ١٨ مارس الى ٢٨ مايو ١٨٧١

الدم الذي سال في هذه الثورات الأربعة لم يحقق أهداف الراديكاليين: لم يقم عالم تسوده الحرية والإخاء والمساواة. كل ما أدى اليه هو توسيع هامش المتاح، تحويل جزء من المستحيل، مجرد جزء، إلى ممكن. وهذه هي الفائدة الحقيقية للراديكالية، لكن الخطأ المأساوي للراديكاليين أنهم يعتقدون بإمكانية تحقيق الحلم كله وفورا لا احتلال المساحات التي يخلقونها والتمترس فيها حتى يحين موعد الجولة التالية. الحرب عند الراديكاليين ليست “كر وفر” بل “كر واستشهاد”، ومن يبق منهم حيا يسب العالم ونقائصه. الذي يبقى حيا هم الوسطيون، هم الذين ينتزعون الإصلاحات واحد تلو الآخر، ويترجمون الأحلام الى واقع، تدريجيا.

على مدى مائة وخمسين عاما منذ سقوط الكوميونة انتزع الوسطيون إصلاحات جذرية من المحافظين – وسط لعنات الراديكاليين. مائة وخمسين عاما من تحرير الانسان؛ حرية تشوبها النواقص وتهددها القوى المحافظة باستمرار، لكنها كل ما أمكن تحقيقه من حرية في ظل مقتضيات التعايش بين قوى اجتماعية متصارعة. وهذا بيت القصيد: يمكنك كراهية المختلفين معك كما تريد: انت ممثل الحرية وهم ممثلي الاستبداد والرجعية، لكنهم لن يختفون من الوجود ولن يتوقفون عن السعي لحماية مصالحهم. السؤال الوحيد هو هل “نساع بعضنا” ونحن نتصارع أم نسعى لاستئصال خصومنا؟

Image result for Paris gilets jaunes

حين استطاع الراديكاليون استئصال خصومهم، نتج عن هذا مستوى غير مسبوق من الدموية والاستبداد معا. قتل الراديكاليون في روسيا والصين وكمبوديا الملايين، ودمروا حياة ملايين أكثر، وأقاموا نظما شمولية قمعية باسم إقامة مجتمع الحرية والإخاء والمساواة. واتضح أن هزيمة الراديكاليين الفرنسيين كانت نعمة.

Related image
الاتحاد السوفيتي ١٩٤٦-١٩٤٧

لا الراديكالية ولا “الإصلاح من الداخل” ينجحان: المنهج الوحيد الناجح هو الإصلاح الجذري التدريجي الذي يترك لخصومه مكانا للتنفس. لا يأتي هذا الإصلاح بالإقناع وإنما بالضغط المستمر، فبدون ضغط مستمر لن يسمح لك أحد بإصلاح شيء. لكنه يتنازل عن مساحات للقوى المناوئة بحيث يقلل من قدرتهم على حشد الناس ضد الإصلاح. الضغط والتنازل هما الأدوات السياسية للإصلاح الجذري المتدرج الذى يجمع بين راديكالية الرؤية وواقعية التطبيق. لكن هذا حديث آخر.

د. عزالدين شكري فشير