البلطجة في المجال العام

الرد على إبداء الرأي بالشتيمة ليس جديدا، بل هو سمة أساسية للمجال العام منذ مطلع القرن.  بعض هذه الشتيمة تعكس غضب أعمى يبحث عن فريسة، وبعضها يعكس كراهية عامة للأفكار والتنظير، وبعضها يعكس فقدان ثقة عميق بالكتاب ومن يدعون أنهم مفكرين، وبعضها جهل بكيفية التعامل النقدي مع الأفكار. وكل هذه أمراض ناتجة عن سوء التعليم الذي يفترض فيه – كما قال طه حسين منذ ٨٠ عاما – تنمية الملكات العقلية والنقدية الأساسية للمواطن العادي.

لكن هناك سبب أهم من كل هذا لمقابلة الرأي بالشتيمة، وهو البلطجة السياسية.

هذه البلطجة لا يقوم بها قراء “أبرياء لكن غاضبين” وإنما يقوم بها محترفون، يعملون بشكل منظم، وبهدف تحقيق فوائد سياسية محددة.

أبرز أشكال البلطجة، ولكن ليس بالضرورة أهمهما، هي تلك التي يقوم بها “النجوم”. وهؤلاء أشخاص بنوا حيثيتهم الاجتماعية، وأحيانا كيانهم الإنساني نفسه، على نجوميتهم في المجال العام – خاصة في الفضاء الافتراضي. بعض هؤلاء النجوم دفع ثمنا باهظا لنجوميتهم، من السجن الى النفي، لكنهم في نهاية الأمر تحولوا الى سلطات صغيرة تحاول إحكام السيطرة على “أتباعهم”، و”حمايتهم” من الإنجرار خلف أفكار لم يتبنوها أو الالتفاف حول أشخاص خارج دائرة سيطرتهم.

لكن البلطجة الأهم تأتي على يد ممثلي الجماعات السياسية، الحكومي منها والمعارض بكل ألوانه – من الإسلامي إلى الثوري.

على الجانب الحاكم،  تعمل اللجان الالكترونية بدأب على تشويه أي فكرة أو شخصية تبرز في المجال العام، سواء بالطعن في فائدتها أو سلامتها أو ملائمتها لواقعنا، أو في نزاهة ودوافع من يطرحها. والهدف واضح: كلما زاد التشويش كلما ابتعد الجمهور عن التفكير، وتملكه الشك في كل الناس وكل الأفكار بحيث لا يبقى له من يثق فيه سوى أجهزة الأمن نفسها، ولا حلول أو رؤى يصدقها سوى تلك التي تتبناها الدولة.

ولا يختلف هذا الهدف عما يسعى بلطجية الجماعات المعارضة لتحقيقه.

أثناء الـ١٨ يوم في ميدان التحرير، وفي كل الاعتصامات التالية، كان شباب الإسلاميين يحاربون أي محاولة لبلورة مطالب سياسية محددة داخل الميدان. لماذا؟ لأن من مصلحتهم قصر بلورة المطالب على “الجماعة” وقصر دور الميدان على الضغط السياسي العام. في نظرهم، المعتصمون أداة، وقود، وسيلة للضغط على السلطات، أما صاحب الرؤية ومصدر المطالب المحددة فهو الجماعة؛ هي التي توجه هذا الضغط وتستخدمه لانتزاع التنازلات من السلطات

.

وخارج الميدان، تجري البلطجة على قدم وساق في المجال الافتراضي، من مواقع الصحف الى شبكات التواصل. كم مرة انقض ممثلوا الجماعات السياسية المختلفة على أصحاب رأي و”حفلوا عليهم” بتهم خيانة الدين أو الوطن أو الثورة؟ أو بأنهم عملاء متخفين للغرب أو للأمن أو للإخوان؟ أو بكونهم بلهاء يركبهم هؤلاء أو هؤلاء دون أن يدرون؟ أو بأنهم “يتغافلون” عن كذا و”يسعون” إلى كذا و”يتناسون” كذا؟

وبالإضافة لحفلات الاتهامات الشخصية، هناك صورة أرقى للبلطجة، ملفوفة في رداء “النقاش الموضوعي”. في هذه الحالة يهاجم البلطجي الفكرة نفسها لا صاحبها، على أساس أنه يمارس “النقد” و”حرية الرأي”. لكنه يبدأ عادة بمسخ مضمون الفكرة المطروحة إلى صورها الأكثر سذاجة وتطرفا، ثم الانقضاض على الفكرة الممسوخة وتحطيمها وإلقاء أشلاءها على الفكرة الأصلية، ثم إعلان سطحية وتفاهة وخطل الفكرة الأصلية. ولا يخلو الأمر طبعا من ختام هذه الحملة بالانقضاض على مصدر الفكرة والتساؤل عن دوافعه ودعوة القراء لتجاهل كلامه.

لكن الصورة الأقوى للبلطجة هي حملات الضبط والتوجيه التي يمارسها ممثلوا الجماعات السياسية في الفضاء الافتراضي. كم مرة أتتك رسالة تعاتبك على تعليق كتبته أو إعجاب أبديته أو شيء نشرته؟ كم مرة جاءتك رسالة أو تعليق “يصحح” لك أفكارك؟ كم مرة كتب لك أحد “أصدقائك” تعليقا يسفه فكرة أبديت إعجابك بها مؤكدا لك أن صاحبها “عليه علامات استفهام” وأن هناك “خلفيات” أو “أن الموضوع أعقد من ذلك” وأنه سيطلعك على التفاصيل لاحقا؟  

أشكال البلطجة هذه لها هدف واحد، وهو السيطرة على تفكيرك وابقاءك داخل الحظيرة. البلطجية هؤلاء، الصغار منهم والكبار، لا يعنيهم الفكرة التي يحاربونها ولا صاحبها: لا هم يريدون “هدايته” ولا إقناعه ولا الاستماع اليه أصلا. الخناقة كلها عليك أنت، على استقلال تفكيرك أنت، لأن هذا الاستقلال خصم للرصيد السياسي للجماعة التي تبلطج عليك. الدور المنتظر منك لعبه هو المشاركة في حالة الغضب العام على الواقع، أما ترجمة الغضب إلى أفكار ورؤى للتعامل مع هذا الواقع فاحتكار للجماعة. وكلما زاد استقلالك الفكري كلما تقلصت سيطرة الجماعة عليك، وهذه فائدة البلطجة.

البلطجة تفيد من يمارسها، لكن ثمنها يدفعه المجتمع ككل.

بديل البلطجة ليس القبول بكل ما يقوله الآخرون، بل فحص كلامهم فحصا نقديا والأخذ بما قد يكون مفيدا منه ودفع الباقي. رد الفعل النقدي على كتابات كارل ماركس ليس بأن تصفه بأنه “يهودي قذر”، ولا بأن تلخص أطروحاته بشكل كاريكاتوري ثم تهاجمها، وتتباهى بـ”دحضك” للفكر الماركسي أمام أتباعك وتعود لما تعتقد أنه صواب، وليكن الليبرالية. رد الفعل النقدي يكون بفحص هذا الفكر، واستخلاص الجوانب التي ترى سلامتها في نقده للرأسمالية وتناقضاتها وصراعاتها وأزماتها، وتضع الباقي جانبا ان كنت ترى عدم دقته، ثم تطور فكرك الليبرالي مستفيدا من اسهامات ماركس التي تراها سليمة. والتعامل الماركسي النقدي مع الأفكار الليبرالية يكون بنفس الطريقة، ليس بالطعن في دوافع جون ستيوارت مل وانما بفحص كلامه والبناء عليه. وهكذا تتطور الماركسية والليبرالية إلي نسخ أكثر تعقيدا وعمقا وغنى من نسخها البسيطة الأولى.

حين تسود البلطجة المجال العام لا يتطور أحد: يظل كل في مكانه، مكررا نفس الكلام البسيط الذي سمعه من البلطجية الذين اتبعهم وهو صغير، ويورث هذا الكلام البسيط لمن يتبعه. وهكذا تظل ماركسيتنا وليبراليتنا واسلاميتنا بسيطة وضحلة، نكرر نفس الكلام الذي يقوله الماركسيين والليبرالين والإسلاميين العرب منذ مئتي سنة، أحيانا بحذافيره.

ثمن البلطجة الفردي هو فقدانك لاستقلاليتك وتحولك الى خروف صغير يحبسه البلطحية في حظيرة الجماعة، وثمنها الجماعي هو عدم تطور رؤانا السياسية الكبرى وبقائها في مرحلة الطفولة.

ومن هنا أهمية مقاومة البلطجة.

مقاومة البلطجة لا تكون بدعوة البلطجية الى تغليب العقل، فهم عاقلون جدا، ويعرفون ما يفعلونه. مقاومة البلطجة لا تكون أيضا بالبلطجة المضادة، لأن هدف البلطجية هو إشاعة لغة السيف والسنجة في المجال العام بدلا من التفكير النقدي المستقل. فكلما تحول المجال العام لخناقة هستيرية كلما كانت البلطجة أنجع وأكثر تأثيرا، لأن الاستقطاب والعنف يخرج من الناس ردود فعل دفاعية وانتقامية لا تدع للتفكير المستقل متنفسا، وهو بالضبط هدف البلطجية. 

المقاومة الوحيدة الناجحة للبلطجة في يد القاريء نفسه. رفضك أنت كقاريء تسليم عقلك لأحد، رفضك السماح لأحد بتوجيه أفكارك أو التفتيش عليها. اصرارك على تنحية الاتهامات الشخصية جانبا وفحص الأفكار بمعزل عن أصحابها. رفضك للتصوير الكاريكاتيري للأفكار ومحاولتك فهمها قبل رفضها.

أنت هدف البلطجية، لا الكتاب والمفكرين، وأنت الوحيد الذي تستطيع مقاومة البلطجة.

البلطجية مخيفون ولا شك، فهم يجوبون المجال العام بالسيوف والسنج، وقادرون على إيذائك ان خرجت عن طوعهم. خوفك مفهوم ومقبول، ولا تخجل من التظاهر بالانصياع لهم إن كان هذا هو السبيل الوحيد لرد أذاهم.

لكن بينك وبين نفسك راجع مايقولونه وتأمله، وراجع الأفكار المغضوب عليها وافحصها. باختصار؛ حافظ على استقلالك العقلي، فربما تحتاجه

د. عزالدين شكري فشير