لماذا يستحيل على المعارضة حكم مصر

يرى البعض، وربما الكثيرون، أن مشكلة المعارضة المصرية تكمن في انقسامها وضعف تنظيمها، وأنها لو وحدت صفوفها ونظمت نفسها فستتمكن من إزاحة استبداد العسكريين وحكم مصر وإخراجها من أزماتها الممتدة.

وأزعم هنا أن هذه النظرة مخطئة، وأن قوى المعارضة يستحيل عليها حكم مصر حتى لو وحدت صفوفها ونظمت نفسها، وأن هذه الاستحالة لا ترجع فقط لاستبداد العسكريين، فحتى حين ينهار التأييد الشعبي لحكمهم ويضطرون للانسحاب وتسليم السلطة، ستفشل قوى المعارضة في الحكم بدرجة لا تقل عن فشل العسكريين وتدخل البلاد في مرحلة جديدة من الفوضى.

والمقصود بـ«قوى المعارضة» هنا المجموعات والأشخاص الذين يسعون للمنافسة على الحكم أو المشاركة فيه، وبالتالي لا أتناول تنظيمات ومبادرات المجتمع المدني التي تعمل على انتزاع مكاسب أو تنازلات من السلطات بشأن قضايا معينة أو نشر الوعي بها.

وأبني هذا الزعم على أساس الافتراضات الأربعة التالية:

أولًا، أن غالبية قوى المعارضة تشاطر العسكريين نظرتهم للدولة والعالم، وتنحصر اعتراضاتهم في مدى الكفاءة السياسية والإدارية للعسكريين أو تربحهم الشخصي من مناصبهم أو إخلاصهم للمصلحة العامة.

على سبيل المثال، تتفق معظم هذه القوى مع العسكريين في رؤيتهم للدولة باعتبارها قاطرة التنمية ومحركها الرئيسي، والمسؤول الأول عن توفير السكن والعلاج والمواصلات والتعليم والثقافة والسلع الأساسية لكل مواطن، إما مجانًا أو بأسعار تتناسب ودخولهم، بل ومسؤولة عن توفير هذا الدخل نفسه من خلال حد أدنى للأجور أو معاشات للفقراء والعاطلين. هذه في نظر الجانبين «مسؤولية» الدولة، لا مجرد هدف تسعى الدولة لتحقيقه من خلال تدخلها في أسواق يسيطر عليها أفراد ومجموعات مستقلين. وما ينطبق على الاقتصاد ينطبق على الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية؛ الدولة هي القائد في كل ذلك.

من ناحية أخرى، تشاطر هذه القوى العسكريين في رؤيتهم الإقصائية لغيرهم، وفي تفضيلهم لأهل الثقة على أهل الخبرة، وفي تفسيرهم التآمري للمختلفين معهم، وفي استعدادهم لاستخدام القوة لقمعهم. الفارق الرئيسي أن هذه القوى تجلس في مقاعد المعارضة ولا تتاح لها الفرصة الكاملة لممارسة رؤاها. لكن حتى من موقع المعارضة، بل والتهميش، تمكن للمتابع المدقق ملاحظة تفشي المنهج الاقصائي لدى هذه القوى خلال السنوات السبع الأخيرة، ابتداء من مساعي «اجتثاث الفلول» مرورًا بمساعي «الأخونة»، ثم مساعي «اجتثاث الإسلاميين»، وانتهاء بالشللية والمؤامرات الإقصائية الصغيرة داخل ما تبقى من أحزاب المعارضة وفيما بينها. المتابع المدقق يلمس جيدًا اتّباع معظم هذه القوى لمنهج البحث في نوايا الأشخاص وتقييم ولائهم كشرط أولي لتقييم أفكارهم. المتابع الجيد لهذه القوى المعارضة يعرف شيوع اتهامات الخيانة بين صفوفها، مثل خيانة دم الشهداء، خيانة الثورة، خيانة القضية الوطنية، إلخ، وكذلك اتهامات العمالة، سواء لأجهزة الأمن المصرية أو الأمريكية والإسرائيلية. المتابع الجيد لهذه القوى يعرف جيدا شيوع تحبيذهم المبدئي لاستخدام القوة من أجل اجتثاث خصومهم ومن أجل «القضية» التي يتبنونها.

كذلك تشاطر غالبية هذه القوى العسكريين في نظرتهم لعلاقة مصر بالعالم، سواء في عنصريتهم إزاء بقية العرب والأفارقة والآسيويين، والمتشحة بنظريات استراتيجية عن الضرورة التاريخية الثقافية السياسية لـ«الريادة» و«القيادة» المصرية، أو في صورتها المخففة المعروفة بـ«القوة الناعمة» أو «دور مصر الإقليمي». يشاطر معظم هذه القوى العسكريين رؤيتهم القومية للتاريخ، بتقسيمها العالم إلى غرب وشرق متصارعين؛ الشرق عظيم وبريء انقض عليه الغرب بالتآمر والخيانة حتى سيطر عليه، ولا يزال يبقيه متخلفًا وخاضعًا أيضًا بالتآمر والخيانة. واتساقًا مع هذه النظرة، يرى أصحاب هذه الرؤية الاقتصاد العالمي والمؤسسات الدولية كأشكال وأدوات للاستعمار السياسي والاقتصادي الذي تتوجب على الدولة مقاومته، وبناء قوة ذاتية سياسية واقتصادية وثقافية، والتنسيق مع الدول العربية والإسلامية وغير الغربية، للتصدي لمخططات الغرب للهيمنة والسيطرة على العالم.

لا يعنيني هنا إثبات صحة أو خطأ هذه الرؤى؛ ما يعنيني هو الإشارة للتطابق بين رؤية قوى المعارضة ورؤية العسكريين الحاكمين للدولة والعالم، والتذكير بأن الخلاف بين الجانبين ليس خلافًا حول الرؤى بقدر ما هو خلاف حول الاستئثار بالسلطة أو الكفاءة أو الفساد والتربح الشخصي أو العمالة للقوى الخارجية.

ثانيًا، أن هذه القوى عاجزة عن بلورة استراتيجية لتعبئة التأييد الشعبي بشكل مستدام يتجاوز الهبات والانتفاضات.

قضت هذه القوى حياتها السياسية تفسر عجزها عن التعبئة وتبرره، تارة بالقمع الحكومي وتارة بتخلف الشعب وانتشار الجهل والأمية واللامبالاة. وبرغم التدهور المستمر في مصداقية الدولة بعد هزيمة 1967 ثم بعد سياسة «الانفتاح الاقتصادي» وانكشاف زيف وعود التنمية والاستقلال والتحرر والرخاء، لم تنجح هذه القوى في ترجمة الاستياء الشعبي الحاد إلى رصيد سياسي. وحين انفجر الغضب الشعبي، في 1977 أو في 2011، ظلت معظم الكتلة الشعبية الغاضبة خارج الأطر السياسية. ورغم «الحالة الثورية» الممتدة، خصوصًا من 2005 وحتى 2013، ورغم انحسار القمع والتسييس الشديد للغالبية، استمر العجز عن التعبئة بشكل مستدام. ومن ثم، حين عادت آلة القمع للعمل بكامل قوتها في خريف 2013، لم تجد في مواجهتها قوى سياسية ذات قدرة على الحشد والمواجهة، بل أفرادًا يقولون كلامًا، ومن ثم تعاملت معهم كأفراد. حتى الإسلاميون – الذين بنوا شهرتهم على كونهم القوة الوحيدة القادرة منذ أيام الوفد القديم على التواصل مع الجماهير وتعبئتها – تبين عجز تعبئتهم عن خوض هذه المواجهة بأي درجة من درجات النجاح.

تبرير هذا العجز وشرح أسبابه التاريخية والاجتماعية، والتأكيد على إخلاص وجهد السياسيين المعارضين و«الأثمان» التي دفعوها، لا يختلفان في شيء عن تبرير العسكريين لفشلهم في قيادة الدولة والدفع بإخلاصهم وبذلهم أقصى جهد ممكن وإفنائهم حياتهم في سبيل الوطن. النتيجة واحدة في الحالتين: الفشل في أداء مهام ضرورية لنجاح المنظومة التي يقودونها. برِّرْ والتمسْ العذر كما شئت، وأنا معك، لكن في النهاية لا يفسد التبرير للوصف قضية، وهو أن كل هذه التنظيمات السياسية المعارضة تعاني عجزًا مزمنًا عن تعبئة الناس بصورة مستدامة، وهو ما يَترجم بعجز مزمن في قوتها، وبالتالي في قدرتها على دفع المصالح التي تمثلها.

ثالثًا، أن هذه القوى عاجزة كلية عن تجاوز مفهومها للسياسة باعتبارها بيانًا للمواقف المبدئية الشريفة أو تنظيم الاحتجاجات، لتنتقل الى بلورة رؤية واقعية لحكم الدولة وإنقاذها من الفشل الذي تنتقده ليلًا نهارًا.

تنادي المعارضة بالتغيير الجذري، لكنها ترى هذا التغيير بنفس الطريقة التي يراه بها العسكريون الحاكمون، لا باعتباره إعادة بناء لمنظومة الدولة الفاشلة، وإنما استبدال للحاكم ومعاونيه، إزاحة للفاسدين، وتغيير في البرامج والأولويات الحكومية. بمعنى آخر، فقوى المعارضة، تمامًا مثل العسكريين، لا تدرك مدى فداحة فشل الدولة، ولأنها غير معنية إلا بتكرار المواقف المبدئية والمطالب، فهي لا ترى من مهامها إطلاقًا بلورة رؤية لكيفية تحقيق هذه المطالب، متصورة أن مجرد تغيير شخصية الحاكم ومعاونيه سيتكفل بذلك.

وللتوضيح أكرر: ليس لدى قوى المعارضة ما تقدمه سوى تكرار الأهداف التي يحلم بها الجميع: دولة ناجحة، ذات إدارة رشيدة، واقتصاد فعال، وخدمات ذات مستوى مقبول، واحترام للحريات والحقوق، وشرطة وقضاء يتميزان بالنزاهة والكفاءة، الى آخره.

كيف نحقق ذلك؟ كيف تنتقل من دولة فاشلة إلى هذه الدولة الناجحة العظيمة؟ لا إجابة لدى المعارضة سوى بيان المواقف المبدئية الشريفة (أي الأهداف والمطالب) والدعوة لتغيير شخصية الحاكم. كيف ننتقل من دولة يقلُّ دخلها السنوي عن مصروفاتها بـ10% تقريبًا إلى دولة تضاعف مصروفاتها عدة مرات كي توفر خدمات الصحة والتعليم والمواصلات والإسكان مع حد أدنى للأجور يتناسب ومستوى الأسعار؟ إجابة المعارضة في معظمها بيان المواقف المبدئية الشريفة (أي الأهداف والمطالب) وتغيير الحاكم.

وإن لم تكفِ هذه العموميات؟ إن كانت مؤسسات الدولة نفسها، ونتيجة تراكم الفشل عبر عقود، غير قادرة على العمل بغير الشكل الذي تعمل به؟ إن كان الاقتصاد نفسه ضعيفًا والموارد شحيحة والإدارة مهترئة والقدرة على التطوير محدودة، مثلما يرى الاقتصاديون المستقلون ومثلما يكرر رئيس الجمهورية في كل مناسبة؟ إن كان الفاعلون السياسيون غير قادرين على ممارسة ديمقراطية تعددية؟ لا إجابة لدى المعارضة سوى القول بأن الحلول موجودة؛ «إنها مسألة فنية وما ينقص هو الإرادة السياسية»، ومن ثم، نتيجة هذه الرؤية، لا ترى المعارضة من واجباتها بلورة رؤى لإعادة بناء الدولة وقدراتها وسياساتها العامة، وجعل هذه المحاولات هي محور النقاش والصراع السياسي، وإشراك أكبر قدر من الناس فيها، بحيث تتحول لرؤى واقعية وقابلة للتطبيق، أي بدائل حقيقية لحكم الدولة وانقاذها من فشلها. عوضًا عن ذلك، تكتفي المعارضة بتكرار مطالباتها بأهداف عامة يعرفها الجميع، بمن فيهم العسكريون الحاكمون، ولا يعرف أحد كيفية تحقيقها فعليًا.

مشكلة هذه الرؤية للسياسة أن الشعب لا يراها جديرة بالمساندة. الشعب، أي الغالبية الساحقة المكونة من القطاعات الرازحة تحت الفقر وحوله، وتلك التي تحاول الفرار من الفقر والتمسك بأهداب الستر، تعرف جيدا أنها تعاني. تعرف جيدًا أحلامها ومطالبها. لا تحتاج لأحد من «المعارضة» ليعرّفها بمشاكلها ويبصّرها بحقوقها أو «يتبنى قضاياها» و«يشرح لها» ارتباطها الوثيق بالسياسة. هي تعرف كل هذا لأنها حياتها اليومية. ما تحتاجه، ما تبحث عنه، وما ظنت أنها وجدته أيام الثورة، قبل أن يتبين لها أنه سراب، هو شخص أو مجموعة قادرين على تحقيق هذه الأحلام. شخص أو مجموعة لديهم «أَمارة»، أي دليل على قدرتهم على تحويل البؤس الذي يعيشون فيه إلى حياة كريمة. حتى الآن لا يرون في أي من القوى المعارضة مثل هذا الشخص أو المجموعة، ومعهم حق.

رابعًا، أن معظم قوى المعارضة لا تفهم أن جوهر السياسة هو المساومة بين فئات المجتمع المتصارعة حول الموارد والرؤى والمصالح. وإن فهمت بعض هذه القوى ذلك نظريًا فإنها لا تبلور أي رؤية لكيفية المساومة مع خصومها، ولا تعد مؤيديها لمثل هذه المساومات، بل على العكس، تعشّمها بانتصار ساحق تحقق فيه كل مطالبها وتفرض رؤاها بالكامل على الباقين. الإسلاميون طبعًا أول المذنبين، ورأت بقية قوى المعارضة بنفسها خلال سنة حكم الإخوان ما ينتظرها إن استمروا في الحكم. لكن الحقيقة أن قوى المعارضة «المدنية» لا تختلف عن الإخوان في هذا الأمر؛ هي أيضًا لا تملك رؤية لكيفية المساومة مع الإسلاميين ولا أعدت مؤيديها لمثل هذه المساومة. وكل من الإسلاميين والمدنيين لا رؤية لديهم للمساومة مع النخبة العسكرية الحاكمة ومصالحها، في حال تخلت عن السلطة، ولا أعدوا مؤيديهم لهذه المساومة. كل طرف يؤمن أنه على حق وأن بقية الأطراف إما ضالة تجب هدايتها أو استغلالية يجب عقابها أو خائنة يجب اجتثاثها. ومن ثم فكل من هذه القوى لديها «رؤية صفرية» للصراع الاجتماعي والسياسي. وفقًا لهذه الرؤية ينتهي الصراع بانتصار الحق، أي هذه القوة، وسحق الباطل، أي بقية القوى، واختفاؤها. لكن واقع السياسة في كل المجتمعات يؤكد ألا أحد يختفي. كل القوى تبقى فاعلة بدرجات متفاوتة في أوقات متفاوتة، ودور النظام السياسي هو تنظيم الصراع بينها. ولا يمكن لأي نظام سياسي النجاح في إدارة الصراع الاجتماعي والسياسي إن تبنت القوى المشاركة فيه مثل هذه الرؤية الصفرية. مشكلتنا إذن ليست فقط في غياب مثل هذا النظام السياسي، بل في تبني القوى الفاعلة لرؤية صفرية. ومن ثم، فحتى إن خلقنا هذا النظام، من خلال دستور جيد، فإن القوة الحاكمة ستفشخ هذا الدستور لا محالة، في سياق سعيها لتصفية خصومها، أيًا كانت القوة الحاكمة وأيًا كان الخصوم.

إن كانت افتراضاتي الأربعة هذه صحيحة، فمعنى ذلك أن العسكريين والمعارضة السياسية شجرة واحدة، وأن الفارق الوحيد أن فرعها الحاكم يلمع تحت شمس السلطة في حين تذوي فروعها المعارضة في ظلال الحزن النبيل ورطوبة ما بعد الفشل. وبالتالي فإن استدارت شمس السلطة وألقت بأشعتها الدافئة على المعارضة، لن يختلف أداؤها عن العسكريين. بمعنى آخر، إن وجد العسكريون أنفسهم مضطرين للتخلي عن حكم مصر تحت وطأة تفاقم الفشل وما يترتب عليه من انهيار التأييد الشعبي لاستمرارهم في الحكم، وسلموا السلطة لمدنيين من قوى المعارضة، سواء باتفاق أو في ظل انتفاضة شعبية جديدة، فسيستحيل على قوى المعارضة هذه النجاح في حكم مصر بقدر أكبر من «نجاح» العسكريين.

عزالدين شكري فشير

نشر هذا المقال في “مدى مصر” في ٢٠ يولية ٢٠١٨