لماذا سيتخلى العسكريون عن الحكم في مصر

في 2013 كتبت أن العسكريين، في حال تخلوا عن المسار الديمقراطي، لن يستطيعوا الحفاظ على الدعم الشعبي الذي حصلوا عليه في 30 يونيو، وأن أيًا من القوتين المناهضتين للديمقراطية؛ الإخوان والعسكريين، لن تستطيع فرض سيطرتها على مصر، التي لن تستقر إلا من خلال نظام حكم ديمقراطى. وقتها، اختتمت المقال، والذي نشرته Die Zeit وجريدة الشروق، بالتساؤل عما «إذا كان مثل هذا النظام سوف يظهر قريبًا، أم أن علينا خوض جولة جديدة من الصراع قبل أن يدرك الجميع الحاجة إلى ديمقراطية حقيقية.»

جاءت الإجابة سريعًا؛ لم يتخل النظام الجديد فحسب عن مسار التحول الديمقراطي، بل أغلق كذلك مساحة التعددية التي حافظ عليها الرئيس مبارك خلال ثلاثين عامًا، ليتحول إلى ما يشبه نظام الحكم الناصري، سواء من حيث استبداده، أو هيمنة العسكريين على كل كبيرة وصغيرة فيه.

نتيجة لذلك، يأس البعض، وربما الكثيرون، من إمكانية التحول الديمقراطي في مصر، واستسلموا إلى قناعة بأن الجيش لن يتخلى عن حكم مصر في المستقبل المنظور، وربما أبدًا.

أزعم هنا أن هذه النظرة مخطئة، وأن العسكريين، آجلًا أو عاجلًا، سيضطرون للتخلي عن الحكم والانسحاب من المجال العام، مفسحين المجال لبداية عملية تحول ديمقراطي حقيقي، مقابل احتفاظهم، ولسنوات طويلة، باستقلالية في إدارة شؤون القوات المسلحة وبصوت مسموع في القرارات الاستراتيجية للبلاد.

أبني هذا الزعم على أساس الافتراضات الأربعة التالية:

أولًا: بحلول 2011 اتضح للأغلبية فشل الدولة في أداء وظائفها الأساسية، مثل توفير الأمن وتطبيق القانون، ورعاية النشاط الاقتصادي، وحشد الموارد البشرية والطبيعية وتنميتها، وتوفير إطار سلمي ومتوازن للصراع بين الفئات الاجتماعية ومصالحها ورؤاها، وحماية مصالح المجتمع الخارجية، وضمان توفر الخدمات الأساسية بشكل مقبول للأغلبية.

بلغ هذا الفشل حدًا لم تعد تجدي معه المسكنات، ولا الإنكار والتظاهر بأن كل شيء على ما يرام أو أننا نمر في عنق الزجاجة وسنخرج منه قريبًا، أو أن السنوات القادمة ستشهد انفراجة، إلى آخر هذه الادعاءات. بل إن القائمين على الدولة بدأوا في التخلي عن هذه الوعود وساد اقتناع عام بأننا في مركب يغرق وأن على كلٍ النجاة بنفسه، مصحوبًا بإحساس عام بأن النخبة الحاكمة تستخدم وظائفها للنجاة بنفسها وأبنائها تاركة الأغلبية لتغرق في بؤسها. ومن هنا جاء التأييد الجارف الذي لقيته ثورة يناير، مع حالة الأمل التي سادت البلاد في أعقابها مباشرة، وقبل تمدد الإسلاميين على السطح.   

ثانيًا: لا يمكن إنهاء هذا الفشل من خلال الضبط والربط، ولا شحذ الهمم واستنهاضها، ولا إخلاص النوايا والتضحية والفداء، ولا من خلال تغيير القائمين على الوزارات والهيئات، ولا حتى من خلال إضافة برامج حكومية جديدة أو إزالة بعضها أو تغيير توجه السياسات الحكومية. وإنما يحتاج هذا الفشل، وبلغة الكمبيوتر، إلى تغيير «نظام تشغيل» الدولة نفسه. أي إعادة بناء مؤسسات الدولة كلها من جذورها، في قطاعات الأمن وإنفاذ القانون، والاقتصاد والخدمات والعلاقات الخارجية والنظام السياسي، وتغيير فلسفة عملها والأسس التي تقوم عليها، بحيث تنقلها من عالم القرن التاسع عشر الذي تعيش فيه الى العصر الحديث.

إعادة البناء هذه في غاية الصعوبة، ويتطلب نجاحها أكبر قدر ممكن من التعاون بين القوى الفاعلة في المجتمع لأنها تعني تغيير الأدوات التي نستخدمها، كمجتمع، في مواجهة التحديات الاقتصادية والسياسية والأمنية، في نفس الوقت الذي نواجه فيه هذه التحديات. أي أن علينا خوض معركتين في نفس الوقت: واحدة مع هذه التحديات، ونخوضها من موقع الخسارة، وأخرى مع الأدوات الفاشلة القائمة، التي تقاوم التغيير هي أيضًا. هذه المعركة المزدوجة أبعد ما تكون عن اليسر، ومن ثم تستطيع أي قوة فاعلة إفشالها، سواء من خلال استنزاف القدرات المحدودة للدولة في معارك إضافية، مثل  الإرهاب، أو مجرد الانسحاب وعدم التعاون مع جهود إعادة البناء.

ثالثًا: تغيرت ثقافة الشعب وأنماط التفكير السائدة فيه، وتوقعاته من السلطات الحاكمة وعلاقته بالدولة، تغيرًا جذريًا خلال العشرين عامًا الماضية، بشكل يفاقم من أثر الفرضيتين السابقتين. ليس هنا محل الدخول في تفاصيل هذا التغيير، لكن أهم ملامحه أن أغلبية الناس أصبحت ترى من حقها مراقبة عمل القائمين على الحكم ومحاسبتهم وتغييرهم، وتقييم أداء السلطات بقدرتها على الإنجاز، لا وفقًا للادعاءات الأيديولوجية للسلطة، كما أصبحت الأغلبية تشعر بالظلم والغضب إزاء مظاهر فشل الدولة، مقارنة إياها بنجاح الدول المشابهة لمصر، وترى أنه من الممكن والضروري تغيير أداء الدولة بشكل جذري، وتتوقع من الدولة مساعدتها على تحقيق أهدافها أو على الأقل عدم إعاقة مساعيها لتحقيقها. هذا التغيير يشمل أغلبية الناس بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية.

رابعًا: لم تستوعب النخبة العسكرية الحاكمة هذه التغيرات بما يكفي لتعديل سلوكها. فهي لاتزال تقلل من فداحة فشل الدولة، وتحاول احتواءه من خلال خليط من المسكنات، وسياسات التعبئة الحماسية الهادفة لـ«إعطاء الناس أمل»، وإجراءات ومشروعات اقتصادية وإدارية، بعضها طموح. لكنها إما أنها لا تفهم معنى ضرورة تغيير «نظام التشغيل»، أو تعيد تفسيره بشكل يقربه من الإصلاح الإداري، أو تفهمه لكن لا تؤمن بإمكانية تحقيقه.

هذه الافتراضات لا يمكن نفيها أو إثباتها، دون دراسات ميدانية تنتهي بالقائمين عليها إلى غياهب الجب. ومن ثم أتعامل معها كافتراضات الفيزياء الخاصة بالثقب الأسود؛ أقيّمها حسب قدرتها على تفسير أكبر قدر من الوقائع السياسية التي شهدتها مصر خلال الحقبة الأخيرة، بشكل أفضل من الافتراضات البديلة، على غرار أن الثورة مؤامرة لتقسيم مصر، أو خطة إخوانية، أو حدث عابر لا يعكس تغييرًا عميقًا في المجتمع، الخ.

هذه الافتراضات الأربعة تفسر أفضل من بدائلها تحول دعوة «كلنا خالد سعيد» من «إيفنت» يوم 25 يناير الى ثورة شعبية بهذا الحجم، سواء بالمشاركة أو بالتأييد. وهذه الافتراضات هي الأساس الذي مكنني من توقع عدد من التحولات السياسية الهامة في مصر منذ 2011.  فبناء على هذه الافتراضات، توقعت في مقال، نُشر بالـ«فاينانشال تايمز» يوم 4 فبراير 2011، نجاح المطالبين بالديمقراطية في إسقاط الرئيس مبارك، ثم تبعثرهم بين التنظيم الحديدي للإخوان و«ملكية» العسكريين للدولة. وهي نفس الافتراضات التي بنيت عليها توقعي، في مقال بنفس الصحيفة، في يناير 2013 بخروج الإخوان سريعًا من سدة الحكم. وهي أيضًا الافتراضات التي بنيت عليها أحداث رواية «باب الخروج».

لا أشير لهذه التوقعات كي أدعي لنفسي قدرة خاصة على التنبؤ، ولكن لتوضيح قدرة هذه الافتراضات الأربعة على تفسير التغيرات السياسية الهامة في مصر منذ 2011.

ومن ثم، إن كانت هذه الافتراضات مفيدة في تفسير مستقبل السياسة المصرية والتنبؤ بها في الأعوام المقبلة، مثلما كانت مفيدة في تفسيرها والتنبؤ بها في الأعوام الماضية، فيمكنني القول إنه من المستحيل أن ينجح الرئيس السيسي، والجيش من خلفه، في حكم مصر بشكل مستقر لفترة زمنية ممتدة. وهذا لأن فشل الدولة أفدح من أن تصلحه الإجراءات الحالية، والتي تراها النخبة الحاكمة أقصى الحلول طموحًا وجذرية، وتحشد لها ما استطاعت من قوة وموارد سياسية وايديولوجية ودعائية واقتصادية ومؤسسية. وبرغم ذلك فهي تواجَه بانصراف أو تقاعس أو عدم مبالاة من قطاعات كاملة من الشعب وعداء مسلح من الإسلاميين، ما يزيد من صعوبة تنفيذها بنجاح. ورغم اذعان الأغلبية للحكم القائم واستسلام الأقلية النشطة أو قمعها، إلا أن ذلك لا يغير من توقعاتها ومطالبها ومعاييرها لتقييم أداء وشرعية السلطات الحاكمة، حتى وان لم تعبر عنها حاليًا.

معنى هذا استحالة وفاء النظام القائم بالآمال التي أطلقها، بالحنو على الشعب وبجعل مصر «قد الدنيا»، وهو ما لا تستطيع أي آلة شحن إعلامي إخفاءه عن الناس أو تغيير تقييمهم لأداء السلطات الحاكمة بسببه لفترة ممتدة.

ومن ثم، لا يتبقى للنظام من سند سوى الإنهاك والذعر الذي أصاب الأغلبية مع فشل الثورة في تحقيق أهدافها، بما في ذلك الخوف من سيناريوهات العراق وسوريا، والشعور العام بغياب بديل آمن أكثر فاعلية في الوقت الحالي.  لكن كلا الأمرين لا يمكنهما الدوام. فاستتباب الأمن الحالي وتباعد الشقة مع الفوضى التي سادت خلال عامي 2012 و2013 يقللان من أثر الذعر القديم، كما أن استمرار العمليات الإرهابية سلاح ذو حدين؛ يُبقي شبح الذعر ولكن بتكلفة عالية، إذ ينال من تقييم الناس لكفاءة النظام. ومن ناحية أخرى، فإن تدهور الظروف المعيشية وتفاقم الغلاء يسهلان تقبّل الناس للبدائل.  

وباختصار، فإن «الرصيد» مآله النفاذ. وعندها لن تكون أمام العسكريين مساحة كبيرة للمناورة. عملية الشحن والتعبئة الجارية منذ 30 يونيو هي أقصى ما يمكن للعسكريين حشده. وبمعنى آخر، فهي علبة الذخيرة الأخيرة.

وحين نصل للنقطة التي ينفد فيها الرصيد أو يوشك على النفاد، قد يقرر الحاكم، أيًا كان اسمه، استخدام ما تبقى من الطلقات في قمع الرفض الشعبي، أيًا كانت صورته، بما يتركه ومن معه عزلًا في مواجهة من يبقى بعد حملة القمع الأخيرة، وهي حماقة نادرًا ما يتورط فيها الجميع.

ومن ثم، فالأرجح أن يتفق العسكريون، في نقطة ما قبل نفاذ الرصيد، على تنظيم انسحابهم من الحكم لتجنب الوقوع فيما هو أسوأ، وضمان استقلالهم وحصانتهم، واحتفاظًا بصوت مسموع في القرارات الكبرى، وهو أفضل ما يمكنهم تحقيقه.

صواب هذا التحليل وخطؤه يعتمدان على صحة الافتراضات الأربعة أعلاه، فإن كانت كلها، أو بعضها، خاطئة، وإن كانت هناك افتراضات أخرى تجبها، فسد هذا التحليل.

على سبيل المثال، إن كانت الثورة مؤامرة ولم يكن هناك تغيير في ثقافة الشعب ولا في حدة فشل الدولة، فستنجح الجهود الجارية لاستعادة الاستقرار، وتعم السعادة على الجميع خلال سنوات قليلة. وإن كانت غالبية الشعب متيمة بالحكم العسكري والضبط والربط ومستعدة لتقبل الفشل والقمع طالما كان وراءه رجال يحدوهم الإخلاص والفداء، فسيستقر النظام مهما حدث.

لكني أظن أن الافتراضات الأربعة التي سقتها أصلب وأقدر على التفسير، ومن ثم أرجّح النتيجة التي أوردتها أعلاه

عزالدين شكري فشير

نشر هذا المقال في “مدى مصر” بتاريخ ٣ يولية ٢٠١٨.