لماذا انقلبت الديمقراطية إلى فوضى؟

إن كانت مقولة «الشعب غير مؤهل للديمقراطية» خاطئة، فلماذا انقلبت بداية تجربتنا الديمقراطية فى 2011 إلى فوضى؟ الإجابة بسيطة: لأن الحكم الديمقراطى يبنى وينمو ولا يولد فجأة من قلب الاستبداد، حتى لو قامت ثورة.

الاستبداد يقوم على مزيج من القمع والاحتواء. وعادة ما يكون ذلك من خلال شبكة من تبادل المنافع بين الحاكم والمحكومين، تهبط فيها العطايا من الحاكم إلى من يواليهم، يأخذون نصيبهم منها ويمنحون الباقى لمن يوالونهم، وهو يأخذون نصيبا ويمنحون الباقى لمن يوالونهم، وهكذا حتى تصل آخر نفحة من العطايا الى أبعد نقطة ممكنة فى المجتمع. فى المقابل، يقدم الممنوح ولاءه للمانح، أو على الأقل يراعى أكل عيشه ويصمت. من يتحدى هذا النظام يتكفل به القمع – أو يتم احتواؤه بمكان أفضل فى شبكة المنافع.

وتتضح معالم هذه الشبكة فى أنصع صورها فى المؤسسات العامة. حيث تغلف هذه الشبكة كلها بغطاء من القانون واللوائح يعطيها الشرعية اللازمة: قواعد ومسابقات التعيين وتقييم الأداء والترقى والأجور والمكافآت والمناقصات والعطاءات والجوائز وما شابه ذلك. تحترم كل هذه القواعد على الورق، لكن الجميع يعلم أن المبدأ الحقيقى الذى تقوم عليه الشبكة هو مزيج القمع والاحتواء.

وهكذا، يصبح هذا المزيج الأساس الذى تقوم عليه حياة المؤسسة. وليس لهذا الأساس علاقة بالإنجاز: فالمؤسسات الناجحة تنجز لأن القائمين عليها شطار – إضافة لكونهم «مرضىٌّ عنهم»، والمؤسسات الفاشلة لا تنجز لأن القائمين عليها ضائعون – رغم كونهم «مرضىٌّ عنهم». الرضا هو الذى يبقيهم أو ينهى عملهم (وأحيانا يفقدون الرضا نتيجة فداحة الفشل) لكن فى أى حال لا يستطيع أحد تحدى سلطة القائم على المؤسسة خوفا من القمع أو من فقدان النفحة التى يحصلون عليها من مواقعهم القائمة.

كيف تدير المؤسسة حين يزول القمع فجأة؟ الإجابة المنطقية هى: وفقا لمعايير موضوعية مثل حسن الأداء؟ ولكن أين هى هذه المعايير؟ كيف تقرر من يستحق ومن لا يستحق فى مؤسسة لم يقم العمل فيها فى يوم من أيامها على «حسن الأداء» هذا (بل فى أحيان كثيرة لا يعرف أحد فيها ما هو الأداء المطلوب أساسا)؟

الإجابة هى: الفوضى. من يضع يده على مصدر للقوة يستخدمه لانتزاع أكبر قدر من المنافع له ولأصحابه. من له ولاء يحشد أنصاره ويكونون «ألتراس» فى المؤسسة ينظمون الاحتجاجات ويوزعون شهادات النجاح والفشل على قياداتها، ومن يسيطر على معرفة ما (مثل الدهاليز القانونية أو الميزانية) يستخدمها، ومن له أنصار خارج المؤسسة أو قدرة على اجتذاب انتباه الإعلام يحشد هذا لتحسين موقفه، وهكذا. كل هؤلاء يزعمون فجأة أنهم هم الثوريون، الذين وقعوا ضحية لظلم النظام السابق، والذين لديهم خبرات لا مثيل لها ومن ثم يستحقون أفضل المناصب وأعلى المكافآت. هل يمكن خلق معايير موضوعية فجأة وسط هذه الحرب؟ بالطبع لا. هل لهذه الفوضى علاقة بالديمقراطية والمشاركة فى الحكم والرقابة على الحاكم؟ فى الاسم فقط. هل لهذه الحرب علاقة بتحسين الأداء وزيادة الإنجاز وتحقق أهداف المؤسسة؟ إطلاقا. هذه مجرد فوضى تقود المؤسسة ومن فيها للهلاك.

ما ينطبق على المؤسسات ينطبق على بقية مناحى الحياة العامة. إن بدأت بالقضاء على مزيج القمع والاحتواء الذى يستند إليه الاستبداد ستنهار الحياة العامة مع انهيار الاستبداد. هذا الانهيار لا يسفر عن ديمقراطية، بل عن فوضى، غالبا ما تنتهى بعودة الاستبداد، والعودة للحلم بالديمقراطية دون أن نعرف إليها سبيلا.

والحل؟

تركيز النضال على وضع أسس الحكم الديمقراطى لا على الوصول لمقاعد الحكم.

نشر في المصري اليوم بتاريخ ١٥ مايو ٢٠١٨