الرئيس الذي لا يخطيء

فى لقائه مع ساندرا، قال الرئيس السيسى إن وضع مصر كان معقولا حتى الستينيات، لم يكن مثاليا لكنه كان معقولا، وما أدى لتدهور أحوالها بشكل حاد هو دخولها حربى اليمن و1967 وتفاقم هذا التدهور حتى عام 1977 ثم أردف بسرعة أن هذا لم يكن خطأ الرئيس عبدالناصر ولا السادات، وأعاد التأكيد أن أحدا من الرؤساء لم يخطئ أو يقصر، وإنما الظروف هى التى أدت إلى ماحدث.

هذا- فى رأيى- هو بيت القصيد. هذا هو مفتاح أزمة الحكم فى مصر منذ 1952: هل الرئيس مسؤول عن نجاح أو فشل سياساته أم تقتصر مسؤوليته على إخلاص النية والعمل؟ هل يمكن أن يكون الرئيس مخلصا ومخطئا فى نفس الوقت؟ هل يمكن أن تكون نوايا الرئيس عظيمة وسياساته كارثية؟ أم أن حسن النوايا والإخلاص فى العمل يعصمان الرئيس من الأخطاء وسوء السياسات؟

إن لم يكن الرئيس عبدالناصر قد أخطأ بدخول حربى اليمن و1967، بكل نتائجهما الكارثية، فمتى يخطئ الرئيس؟ إن لم تكن السياسات التى تبناها الرئيس عبدالناصر، والأجهزة التى ساندته، سياسات فاشلة، فما هو شكل السياسات الفاشلة؟ إن لم يكن الرئيس عبدالناصر مسؤولا عن هذه الكوارث، فمن هو المسؤول؟ الظروف؟

كل الدول المشابهة لمصر واجهت ظروفا صعبة وتحديات كبرى، بعضها نجح وبعضها فشل، ومن ثم لا يجوز إلقاء تبعة الفشل على الظروف والتحديات بل على كيفية التعامل معها. فمهمة الحاكم الأساسية هى التعامل مع الظروف، أى اختيار سياسات تنجح فى التعامل مع التحديات التى تواجه بلاده. الرئيس- والنخب والأجهزة التى تعاونه- هو الذى يختار سياسات معينة بدلا من أخرى، وبناء عليه فهو الذى يتحمل مسؤولية هذا الاختيار. لكن كيف يتحمل الرئيس مسؤولية سياساته دون تعريف أصلا للنجاح والفشل؟ بمعنى آخر، إذا حدث ماذا نقول.. إن الرئيس قد نجح وأصاب فى اختياراته. وإن حدث ماذا نقول.. إنه قد فشل وأخطأ فى اختياراته؟ هل لدى أحد إجابة؟

أم أن النجاح والفشل لا يهمان طالما كانت أغلبية الشعب تحب الرئيس وتثق فى إخلاصه وتفانيه كما تذهب الحكمة الشائعة؟ فالشعب المصرى وفقا لهذه الحكمة شعب عاطفى، مستعد للتضحية بمصلحته مقابل الكلمة الحلوة، ومستعد أن يغفر لرئيسه أى خطأ طالما أحب هذا الرئيس ووثق بنواياه. ودليل أصحاب هذه النظرية هو استمرار محبة الناس للرئيس عبدالناصر رغم الكوارث التى خلفتها سياساته.

إن كان هذا الكلام صحيحا فقد ضعنا وضاع مستقبلنا، لأن الإخلاص والتفانى ليسا أدوات نجاح الدول. الدول تنجح حين تتبنى سياسات اقتصادية واجتماعية وسياسية وأمنية قادرة على استخدام مواردها المتاحة بأفضل وسيلة ممكنة، وتنمية هذه الموارد، بحيث تستجيب بأكبر قدر ممكن من التوازن لمصالح القوى المؤثرة عليها، وبحيث تراجع فاعلية هذه السياسات بشكل مستمر وتعدل منها تباعا. صياغة مثل هذه السياسات وتطبيقها يتطلب رؤية سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية للمجتمع والدولة والعالم تتسم بالواقعية والطموح والتوازن. إخلاص الرئيس ومن معه وتفانيهم لا علاقة له بطموح أو واقعية أو توازن رؤيتهم للمجتمع والدولة والعالم. لا علاقة بين الإخلاص وبين سلامة الرؤية التى يعتمد عليها النجاح. ومن ثم، إن كان معيار غالبية الشعب فى تأييد الرئيس أو حجب هذا التأييد هو المحبة، أو تقديرهم لإخلاص الرئيس وتفانيه وحسب، فنحن فى مركب تذهب حسبما تأخذها الريح.

أما إن كان حدسى وفهمى للشعب المصرى سليما، فنحن إزاء شعب ناصح، لا يأكل من الكلام الفارغ والعاطفيات، ولا يهمه سوى النجاح الذى يحققه له من يوكله أمره، سواء كان مزارعا مستأجرا لأرضه، أو طبيبا أو محاميا أو رئيسا. فى كل هذه الحالات هو يبحث عمن يثق فى قدرته على الإنجاز. طبعا هو لا يريد أحدا يسرقه، أو يهينه، لكنه لا يقنع بالكلام الحلو وحسن المعاملة والإخلاص فى العمل، وإنما يريد نتيجة تعود عليه بالنفع وتحسن من حاله. ومحبة الناس لعبدالناصر فى أغلبها وراءها ملايين استفادوا من سياساته: من دخلت الكهرباء والوحدات الصحية قراهم ودخل أبناؤهم المدارس والجامعات ونالوا أرضا أو وظيفة بسبب هذه السياسات. من أجل هذا بلعوا له الزلط.

إن كان تقديرى صحيحا، فإن أغلبية الشعب مستعدة اليوم لابتلاع الزلط مرة أخرى فى سبيل نجاح الدولة فى تحسين الاقتصاد والخدمات- بالذات الصحة والتعليم والإسكان والمواصلات. هذه الأغلبية لا تلتفت كثيرا لقضايا الحريات، ولا يعنيها فى كثير أو قليل إن كان الرئيس ومن معه مدنيين أم عسكريين، ولا يفرق معها فى شىء أن يعلن الرئيس بيان ذمته المالية كما يقتضى الدستور أم لا، ولا أن تكون الانتخابات حقيقية أم شكلية، ومستعدة لابتلاع كافة أشكال التطبيل الإعلامى وتصديق أحاديث المؤامرات إن لزم. هذه الأغلبية مستعدة للتغاضى عن كل هذه الأمور وعما يشبهها، فى مقابل شىء واحد: أن ترى تقدما ملموسا وأكيدا فى اتجاه بناء دولة عصرية ناجحة.

إن كان تقديرى سليما، فهذه الأغلبية صابرة وعينها على مؤشرات النجاح كما تلمسه فى حياتها: هل سيتحسن وضعها الاقتصادى من حيث فرص العمل والدخل والأسعار والعدالة الاجتماعية؟ هل ستتحسن الخدمات من صحة إلى تعليم إلى إسكان إلى مواصلات؟ هل سيتحسن الوضع الأمنى ومعاملة السلطات الأمنية للمواطن؟ باختصار عين الأغلبية تبحث عن إجابة على سؤال واحد: هل سيقود الرئيس ومن معه مؤسسات الدولة نحو النجاح أم نحو الفشل؟

ستتوصل هذه الأغلبية إلى الإجابة على هذا السؤال بهدوء ودون الاستماع لرأى المعارضين ولا المؤيدين. لا مقالات «النخبة» ستؤثر على رأيها ولا التطبيل ليل نهار فى وسائل الإعلام ستتوصل للإجابة من خلال حياتها اليومية وما يطرأ عليها أو لا يطرأ من تغيير. السؤال الأهم هو: هل لدى الرئيس والأجهزة التى تسانده تعريفا واضحا لما يشكل نجاحا وفشلا للسياسات التى يتبعها وللرؤى التى تستند هذه السياسات إليها؟ بمعنى آخر، إن حدث ماذا سيتوقف الرئيس والأجهزة التى تسانده ويعيدون النظر فى المسلمات التى يحكم وفقا لها؟ أم أن الرئيس ومن معه مقتنعون أن الرئيس لا يخطئ أو يقصر طالما كانت نيته مخلصة؟ وأن ما يحدث سيكون نتيجة للظروف لا لاختيارات الرئيس ورؤيته السياسية والاقتصادية والاجتماعية؟

نشر في المصري اليوم بتاريخ ١ ابريل ٢٠١٨