أرى وأسمع وأتكلم

فى مقدمة كتابه «قصر الأحلام العربى»، يستشهد الأستاذ الأمريكى اللبنانى الأصل- واليمينى التوجه- فؤاد عجمى بمقال كتبه الشاعر العراقى «بلند حيدر» يصف فيه حال الكتاب العرب وعلاقتهم بمجتمعاتهم. ولست من المعجبين بمواقف فؤاد عجمى السياسية، خاصة إزاء الغزو الأمريكى للعراق. لكن الحكمة، كما كتب الأمير عبدالقادر الجزائرى، هى «ضالة العاقل، يأخذها من عند كل من وجدها عنده، سواء كان حقيرا أو جليلا». يقول فؤاد عجمى نقلا عن حيدر أن الكتاب العرب يسبحون وسط بحر من الإرهاب. فهناك أولا إرهاب من نصبوا أنفسهم متحدثين باسم الشريعة الإلهية، الذين يقررون للناس الحرام من الحلال والإيمان من الكفر. ثم هناك إرهاب النظم الحاكمة التى تحتكر صكوك الوطنية والولاء. وأخيرا هناك إرهاب الجموع، بمشاعرها القبلية أو العرقية أو الوطنية المتأججة. ومن يخرج عن طوع أى من هذا الثلاثى المقدس يتعرض لشتى صنوف التنكيل، من التشهير حتى الإيذاء البدنى بل والقتل. ومهما بلغت مكانة الكاتب أو حرصه، فلن يعفيه شىء من الأذى إن تحدى أيا من قوى الإرهاب الثلاثة هذه: حتى نجيب محفوظ لم ينج من سكينهم. ومن ثم، يقول فؤاد عجمى، يحمى الكتاب العرب أنفسهم باتباع منهج «لا أرى، لا أسمع، لا أتكلم».

لا أظن جميع الكتاب يتبعون هذا المنهج بالكامل، لكن المؤكد أن معظمنا يفعل ذلك بدرجة ما. وهو فى الحقيقة الأمر تخاذل عن أداء واجبنا ككتاب. لا فرق بيننا وبين الطبيب الذى يهمل أو يسىء علاج مريضه، أو الضابط الذى يعذب المقبوضين عليهم، أو الموظف الذى يرتشى، إلى آخر قائمة من ننتقد سلوكهم ليل نهار. فواجب الكاتب هو أن يرى، ويسمع، ويتكلم، بصوت عال وواضح، دون مواربة أو تجميل، كى يرى الناس عيوب مجتمعهم، لعلهم يوما يعالجونها. الكاتب هو الذى تصدى لمهمة الكتابة، لم يفرضها أحد عليه، ومن ثم فإن تخاذله عن أداء واجبه لا يبرره الخوف من الإرهاب الذى تحدث عنه فؤاد عجمى. دع الكتابة إن كنت تخاف، أما إن كتبت، فلاشىء يبرر كتمانك ماتراه حقا.

من واجبى، ككاتب، أن أرى، وأسمع، وأتكلم.

ومن ثم أقول إن النظم العربية الحاكمة مستبدة، الاستثناء الوحيد هو العالم العربى نفسه، الذى أفلت من رياح التحول الديمقراطى والحكم الرشيد التى تهب على العالم كله منذ عشرات السنين. استبداد النظم لا يستند لشىء أكثر من البطش. وهى تمارس هذا البطش بمختلف الأساليب، الذكى منها والمتدرج والغاشم المفرط فى استخدام القوة. فشلت هذه النظم فى كل ما سعت لتحقيقه إلا فى أمر واحد وهو قمع مجتمعاتها. وهو- بالإضافة لكونه انتهاك لحقوق الناس- يرسخ فشل هذه الأنظمة. فقادة النظم المستبدة رجال أمن، لا يفهمون إلا فى السيطرة. وهم لا يتركون أحدا- بما فى ذلك الخبراء الفنيين- يقوم بعمله بشكل كامل ومستقل. فعلى الجميع الرجوع إليهم فى أول الأمر وآخره، لأن كل مناحى الحكم- من الرياضة إلى الاقتصاد- لها نتائج على «الاستقرار» (أى على السيطرة). ومن ثم فالاستبداد العربى (عكس الاستبداد فى إسبانيا والبرتغال وسنغافورة وكوريا الجنوبية والصين وتشيلى) لم ينتج تنمية فى أى يوم من الأيام، ولن ينتجها فى أى يوم من الأيام. الاستبداد العربى لم ينتج سوى الكوارث، من استمرار التخلف الاقتصادى والاجتماعى إلى الهزيمة العسكرية، ولن ينتج سوى مزيد من هذه الكوارث فى المستقبل.

وأقول أيضا إن من نصبوا أنفسهم ممثلين للإسلام لا ولاية لهم على أحد. فلا شيوخ الأزهر ولا ملتحو السلفية ولا قادة الجماعات الجهادية لهم ولاية على غيرهم. فمن حق كل إنسان أن يؤمن أو يكفر. كل إنسان حر، والإيمان عمل اختيارى بحكم تعريفه. ومن حق كل إنسان أن يؤمن بالشكل الذى يراه، وأن يمارس مايحب ممارسته ويترك ما يرى تركه. قد يكون حكمك عليه أنه كافر، أو ناقص الإيمان، لكن حكمك لا يخص أحدا غيرك. فهو أيضا قد يكون لديه حكم مماثل عليك. وإن كنت تعتقد أن الله قد أمرك أن تقاتل الناس حتى يسلموا فعليك مراجعة فهمك للإيمان. وما لم تضع جانبا فكرة أن الله ولاك على غيرك فلا يمكن أن يقوم بينك وبين الناس سلام أو تعايش. وبالإضافة لذلك، فإن تنصيب البعض لأنفسهم أولياء على الناس هو الذى قاد المسلمين للجمود الفكرى والروحى الذى نرزح تحته منذ مئات السنين، وهو المسؤول لا عن تخلفنا المادى فحسب بل عن تخلفنا الروحى والإنسانى أيضا. ومالم نفك عن أنفسنا سلاسل الوصاية الدينية هذه وننظر للإسلام بحرية وبعقل فسنظل نغرق فى دم القتل باسم الجهاد والحكم بما أنزل الله.

وأقول أيضا إن إرهاب الجموع لا يقل تدميرا لحياتنا العقلية والاجتماعية عن الإرهاب الدينى والسياسى. من يعتقدون أنهم «تقدميون»، يساريون كانوا أم قوميين أم فوضويين، لا يختلفون عن الحكام ولا أدعياء الإسلام فى التنكيل بالمختلفين معهم والبطش بهم. ينصب بعضهم نفسه وليا على «قومه»، ويجعل من مهامه التحقق من التزامهم بالموقف «السليم»، والتحقيق مع من يخرج عنه وعقابه بما يتناسب وحجم «انحرافه». يمارسون عمل محاكم التفتيش هذا فى المجال العام إن كان متاحا، أو على شبكات التواصل الاجتماعى إن لم يوجد غيرها، ويمارسونه داخل تنظيماتهم مهما بلغت ضآلتها، بل ويمارسونه داخل زنزانة السجن نفسها. هؤلاء «التحرريون» لديهم مقدساتهم أيضا: الضرائب التصاعدية والحد الأقصى للأجور والتنمية التشاركية والتعامل مع أمريكا والتطبيع مع إسرائيل وقروض البنك الدولى وروشتة صندوق النقد. هم أيضا سيحققون معك ليقرروا وطنيتك وتحررك، وسيحلون دمك إن أثرت الشكوك والأسئلة.

واجبى ككاتب أن أقول بوضوح إن هذا الثلاثى التعس هو من أوصلنا لما نحن فيه. وأن أقول- لمن يسأل أين نحن- إننا قابعون تحت الركام. ولن يخرجنا من الركام مزيد من سيطرة الضباط المخلصين للوطن، ولا مزيد من الأدعية والأذكار، ولا مزيد من الشعارات التحررية المعادية للحرية. لن يخرجنا من تحت الركام مزيد من الاستبداد ومعاداة الحرية والعقل. لأن العالم الذى نريد الخروج إليه يقوم على سيادة العقل والحرية. وواجبى ككاتب أن أزعجكم بهذه الحقائق ما استطعت إلى ذلك سبيلا. ولن يخرجنا من تحت الركام اتهامى بالخيانة أو الكفر أو الرجعية. أو اتهمنى بذلك، لكن اتبع نصيحة الأمير عبدالقادر الجزائرى، وخذ الحكمة ممن تجدها عنده… «حقيرا كان أم جليلا».

نشر في المصري اليوم بتاريخ ١٨ مارس ٢٠١٨