بلد الأمن والأمان

الذى يحكم مصر منذ عام 1952 هو أجهزة الأمن: المخابرات العامة، والمخابرات العسكرية، والشرطة. هذه الأجهزة لا تسيطر على الأمن فحسب، بل على كل السياسات الحكومية. فالوزارات «المدنية» تتابع شؤون قطاعاتها بشكل يومى، لكن أى تغيير فى السياسة القائمة يتطلب موافقة الأجهزة الأمنية، كما يخضع أداء الوزارات لتقييم هذه الأجهزة – إضافة لضرورة موافقتها المسبقة على التعيينات من أصغر موظف إلى الوزير شخصيا. هذه هى بديهيات العمل الحكومى فى مصر. أما بالنسبة للعمل العام، من الإعلام للنقابات للأحزاب لتحديد هامش الحريات، فإن الكلمة العليا فيها – وأحيانا الوحيدة – هى أيضا للأجهزة. وفى قطاع الأعمال، لا يختلف الأمر كثيرا وإن تمت إدارة السيطرة عليه بأشكال مختلفة. ووظيفة رئيس الجمهورية الأهم هى قيادة المنظومة الأمنية والتنسيق بينها وفض الاشتباك بينها وبين الجهات غير الأمنية – حكومية كانت أم أهلية. وبالتالى فمن المنطقى أن تتولى الأجهزة الأمنية اختيار رئيس الجمهورية، فهو فى أول الأمر وآخره رئيسها هى.

لماذا يريد بعضنا والحال هكذا حشر المواطنين العزل فى هذه العملية؟.

الأجهزة الأمنية تعرف كل صغيرة وكبيرة. تعرف الصالح من الطالح، والقادر من العاجز، والأمين من الخسيس، والمخلص من الخائن، ومن يفكر فى المصلحة العامة ممن «يسعى خلف الدولارات واليوروهات» – أو حتى «اللايكات». وبالتالى، فهى الأقدر على اختيار الشخص الأنسب لقيادة البلاد والعباد. كيف يمكن للمواطنين الجهلة الاختيار بين المرشحين وهم لا يعرفون شيئا من هذا؟.

الأجهزة الأمنية لديها تاريخ كل موضوع من كافة جوانبه، ومن ثم فهى تعرف ما يمكن تنفيذه على أرض الواقع وما يدخل فى باب المزايدات والأحلام الساذجة. تعرف ما يحقق المصلحة وما يهدرها سواء بحسن أو بسوء نية. تعرف ما يرضى الناس فعليا وما يمكنهم تحمله وما لا يمكنهم تحمله حتى وإن قالوا عكس ذلك.

فهل يعقل أن تترك للمغامرين والسذج والمغرضين فرصة للتجريب أو التخريب فى البلد؟.

الأجهزة الأمنية تعرف أن الحكم فى أى بلد لا يترك للعامة. ففى البلاد «الديمقراطية» يتحكم رأس المال فى اختيارات الناس، من أول تمويل السياسيين حتى الإعلام. وبما أننا لسنا بلدا رأسماليا فإن الطبقة الحاكمة لدينا – أى هذه الأجهزة – هى التى تتولى مهمة الفرز والضبط والربط، وهى تفعل ذلك للمصلحة العامة، عكس الرأسماليين الذين يسعون لنهب خيرات البلد (وعكس السذج والمزايدين الذين تناولتهم فى الفقرة السابقة).

فلمصلحة من يطلب منها رفع يدها عن الحكم؟.

الأجهزة الأمنية تؤمن بأن مصر مستهدفة، منذ الهكسوس والحيثيين إلى حروب الجيل الخامس وما بينها من مؤامرات استعمارية مختلفة لم يفشلها سوى رجال الأمن، من مقاومة «أحمس» إلى موقعة قادش العظيمة إلى المماليك ثم الضباط الأحرار وأبنائهم الأبرار. هذا الاستهداف لن يتوقف حتى يوم القيامة، لما لمصر من موقع خاص فى قلب التاريخ والجغرافيا، فهى زهرة الرمان ورمانة الميزان، باسقة الأفنان، زيتونة. ومن ثم فلابد لها من عين ساهرة ودرع تحميها ليس فقط من هؤلاء الأعداء بل – ربما الأهم – من تفتت «الجبهة الداخلية» على يد العملاء والبلهاء والمزايدين من أمثالنا.

كيف يمكن لهذه الأجهزة إذا فتح الباب أمام هؤلاء ليتدخلوا فى اختيار حاكمها؟، هيهات.

ولهذا فصّلت الأجهزة الأمنية النظام السياسى المصرى – منذ ثورة يوليو المجيدة – على مبدأ تقليل المشاركة الشعبية لأقل درجة ممكنة، مع تفضيل التعيين على الانتخاب كلما أمكن. وتجلى ذلك فى «انتخابات الرئاسة» القائمة على ترشيح «مجلس الشعب» شخصا واحدا يتم استفتاء الشعب عليه، مع إحكام السيطرة على مجلس الشعب وعملية الاستفتاء بحيث تكون النتيجة مضمونة وغير خاضعة للعبث. وقد منح هذا النظام مصر استقرارا مبهرا لخمسين عاما، فلم يرحل رئيس عن كرسى الرئاسة إلا ميتا. واستمر هذا الاستقرار حتى قبل الرئيس مبارك- فى سياق الضغوط الأمريكية – بمبدأ الانتخابات التعددية، وهو أمر لا يتسق البتة مع حكم الأمن. فهناك من يستغل المناخ الانتخابى ويرشح نفسه، أو ينتقد الرئيس أو الأجهزة الأمنية، أو يحاول تأليب الشعب على واقعه، أو تبلغ به الحماقة أن يدعو الشعب لانتخاب شخص آخر غير من اختاره الأمن، إلى آخر ذلك من مظاهر التفسخ والــ«لكلك» التى عشناها فى السنوات الأخيرة. هذا هو ما يضطر الأجهزة الأمنية لاتخاذ خطوات درامية مثل التشهير الاحترازى بالشخصيات العامة كى لا تسول لهم أنفسهم الترشح، أو – لمن لا يفهم – إلقاء القبض على من لديه فرصة حقيقية سواء عند ترشحه أو بعد نهاية الانتخابات، بما يتطلبه ذلك من مجهود قانونى وإعلامى وما يترتب عليه من ضجة يستغلها أعداء الأمن.

ولأن الانتخابات بشكلها التقليدى تتناقض مع حكم الأمن، فأقترح إجراء من اثنين: إما العودة لدستور 1971 وانتخاب رئيس الجمهورية عن طريق مجلس الشعب (دون استفتاء لتوفير النفقات)، أو استحداث نظام «الرقم الأمنى» Security Score.

«الرقم الأمنى» يشبه «الرقم الائتمانى» المعمول به فى البلاد الرأسمالية، والذى يعكس قدرة الشخص على الوفاء بديونه، بناء على سلوكه منذ حصوله على أول بطاقة ائتمانية. هذا الرقم متاح للجميع يمكنهم الاطلاع عليه حين يطلب الشخص استخراج بطاقة ائتمانية أو الحصول على قرض. «الرقم الأمنى» المقترح سيعكس تقدير الأجهزة الأمنية لمدى إخلاص المواطن وولائه، ودرجة سذاجته أو إدراكه حجم التحديات التى تواجهها البلاد، ومدى فساده أو نقائه، وسلامة نيته أو سعيه للشهرة والمال، والآراء التى يعبر عنها أو تختلج بها نفسه، وغير ذلك من الأمور التى لا تعرفها سوى أجهزة الأمن. ويكون هذا الرقم متاحا للجميع، يمكن معرفته بمجرد إدخال الرقم القومى للمواطن على موقع ينشأ لهذا الغرض، ويتم تحديث الرقم باستمرار، حسب تطور سلوك المواطن، كما يمكن – من باب الشفافية – أن يطعن المواطن على رقمه ويطلب إيضاحات بشأنه أو تصحيحه. وجود هذا الرقم يرشد عملية الانتخابات، من خلال تحديد «الرقم الأمنى» المطلوب توفره فى المرشح لكل منصب عام، حسب حساسية المنصب، بما يضمن استبعاد من لا يصلح وفقا لآلية قانونية ودون ضجة. كما يمكن الاستفادة من «الرقم الأمنى» فى التعيينات والترقيات فى الحكومة، وفى القطاع الخاص، وفى طلبات القبول بالجامعات والمدن الجامعية، وطلبات الزواج، والمنح الدراسية والقروض المصرفية، وفى المجال العام مثل الكتابة والإعلام والانضمام للأحزاب واختيار الوزراء، وفى عقود الإيجار وطلبات الالتحاق بالمدارس الخاصة والنوادى وغيرها، بحيث تكون مصر بحق بلد الأمن والأمان ونخيب أمل أعداء الوطن ونحبط عملهم.

نشر في المصري اليوم بتاريخ ١٨ فبراير ٢٠١٨