لا شرقية ولا غربية

يولد الإنسان حراً، لكن الهوية تحبسه فى صناديقها.

يولد إنساناً، مثله مثل الجميع، يمكن أن يكون عضواً فاعلاً فى أى جماعة، أن يتذوق أى ثقافة ويشارك فى أى مجتمع، لكن الهويات القومية والعرقية والثقافية تسدل ستاراً حديدياً على فرصه وتحبسه فى علبها. الهوية سجن، وسجن بغيض. تُعلمه أنه أفضل من غيره، وتعلمه كراهية غيره، وتجهزه كى يصبح جندياً فى معركة عبثية لا يستفيد منها إلا ثُلة الدمويين الذين يحكمون العالم.

الشرق والغرب، العرب والفرس والأكراد والبربر وبقية الهويات القومية والعرقية والثقافية، ما هى إلا أسماء سميناها، نحن وآباؤنا.

لكن لا الشرق روحانى ولا الغرب مادى.

هناك بشر، يعيشون تحت سيطرة سلطات سياسية وأمنية تحدهم وتعطى لهم حقوقاً (متفاوتة) وتفرض عليهم واجبات (متفاوتة). لكن فى النهاية كلهم بشر لديهم نفس السمات، بيولوجياً وذهنياً واجتماعياً.

فداخل كل هذه الصناديق هناك «روحانيون» و«ماديون». هناك المحافظون أنصار العائلة والتقاليد والذين يريدون تقييد الحرية الفردية، وهناك أنصار الحرية الفردية بلا حدود، الذين يريدون تغيير التقاليد وتحطيمها. وهناك كل الألوان والأصناف بين النوعين.

داخل كل هذه الصناديق هناك نفس الخلافات حول الجنس، والنساء من أنصار المساواة الكاملة إلى أنصار قوامة الرجال على النساء وما بينهما. هناك نفس الخلافات حول الحرية الجنسية، ممن يحرمون الجنس قبل أو خارج إطار الزواج إلى من يبيحونه بلا حدود، من يشرعون الإجهاض ومن يعتبرونه جريمة، من يرون الناس أحراراً فى توجهاتهم الجنسية ومن يرون المثلية اعتداءً على المجتمع. فى كل «الثقافات»، فى كل «الأمم»، فى كل «الجماعات» ستجد نفس هذه الخلافات والمواجهات.

داخل كل هذه الصناديق هناك خلافات حول دور الدين فى الحياة العامة بين أنصار الفصل الكامل بين الدين والدولة، ومن يرون أن للدولة ديناً. خلافات بين من يرون الدين شأناً شخصياً على أصحابه ممارسته بهدوء ومن يرون للدولة دوراً فى حماية القيم الدينية، من يرون ترك الدين للمؤسسات الدينية، ومن يرون ضرورة تعليم الدين والصلاة فى المدارس.

داخل كل هذه الصناديق صراعات حول طريقة الحكم، وكيفية توفير الأمن والنظام دون الطغيان على حقوق الناس.

داخل كل هذه الصناديق صراعات حول توزيع الثورة، والتفاوت فى الدخول، ودور السلطات العامة فى تنظيم الأسواق والمعاملات الاقتصادية.

ليس هناك شىء واحد نمر به ونتعامل معه على أنه «عجبة» إلا وتمر به بقية المجتمعات، أو مرت به. كل شىء نتصارع حوله اليوم يتصارع حوله الناس فى بلاد أخرى، أو تصارعوا حوله فى أزمنة مرت. فكل الناس فى أول الأمر وآخره تريد نفس الأشياء: تريد دخلاً وسكناً وتعليماً وصحة وخدمات ودولة تحمى الأمن والحرية، وتمكن الناس وتساعدهم وتفصل فيما بينهم. سواء دقت الناس صليباً أو ارتدت العمائم، سواء كانت تحب موسيقى الجاز أو العود، سواء كانت صفراء البشرة أو سوداء.

ولأننا كلنا نريد نفس الأشياء، ونخاف من نفس الأشياء، ولأننا نعيش على نفس الكوكب، فقد مررنا جميعاً بنفس الصراعات. كلنا خلقنا لأنفسنا تقاليد، وحكينا لأبنائنا حكايات عن «تاريخنا» جعلتنا نبدو أمماً أو شعوباً أو قبائل متميزة وعظيمة، ذات رسالة خالدة ومهد الحضارة، وكلنا اضطررنا للتعامل مع تعقد الحياة الإنسانية وصراعاتها، بما فى ذلك التعامل مع البلطجية الذين أرادوا فرض سيطرتهم على غيرهم، والتعامل مع من أرادوا كنز الثروات واستغلال غيرهم، والتعامل مع من أرادوا فرض رؤاهم على غيرهم. كل البشر، بغض النظر عن «ثقافاتهم» و«أعراقهم» و«قومياتهم»، دخلوا فى هذه الصراعات ووصلوا لصيغ متباينة للتعايش فى ظل وقعها الذى يهرسهم جميعاً. كل الناس دخلت فى هذه الصراعات وتعاملت معها عبر التاريخ، منذ العصر الحجرى حتى ما بعد الحداثة. وفى القرون الثلاثة الأخيرة اتسمت هذه الصراعات بتشابه متزايد نتيجة الترابط المتزايد، والتداخل بين المجتمعات البشرية فى العالم كله.

سمها العولمة، أو الرأسمالية، أو الحداثة، أو حتى الفنكوش. لكن الذى حدث هو انحسار دور القبائل والعشائر والحمولات والمجتمعات الرحل: وبزوغ دور الفرد، والعائلة الصغيرة.

انحسار دور الأشكال السياسية المتعددة، وبزوغ دور الدولة التى تحاول ممارسة السيادة على إقليم محدد من الأرض.

انحسار دور المقايضة والتبادل والهدايا، وبزوغ دور السوق كمنظم للاقتصاد.

انحسار دور استسلام الإنسان وخضوعه للسلطات الخارجية، وبزوغ أفكار تحرير الإنسان وسيطرته على نفسه وحياته.

هذا ما حدث فى كل المجتمعات، من الصين شرقاً إلى وسط أفريقيا: بدرجات متفاوتة وأشكال متباينة. يمكنك أن تفرح أو تأسى لما جرى، كما تشاء. لكن سواء كان هذا خبراً سيئاً أو مفرحاً، جميلاً أو قبيحاً، فالمهم أن هذا ما حدث. ولأن الأشياء لا تعود لما كانت عليه أبداً، بل تلد أشكالاً أخرى، فإن محاولات «العودة» للماضى (سواء كان هذا الماضى سياسياً أو ثقافياً أو دينياً) هى عبث محض. فيمكنك البحث عن قبيلة فى الأمازون مازالت تعيش على الهدايا والتبادل وتحاول التمسك بأهدابها، أو أن تحاول فرض هذا النظام على مجتمع من ملايين الأشخاص بالقوة مثلما فعل ستالين فى روسيا، أو الخمير الحمر فى كمبوديا. يمكنك أيضاً الاستسلام الكامل لهذه الأنماط والانسياق خلفها دون تبصر أو مقاومة حتى تنزل كوارثها على رأسك وتسحقك.

ما يفعله العاقلون من البشر هو البحث عن طرق لتقليل بؤسنا الفردى والجمعى الناتج عن هذه التحولات المستمرة: كيف لا نفقد آدميتنا فى وجه توحش السوق وقواه، وكيف نسيطر عليه دون أن نحطمه ونحطم اقتصادنا معه؟ كيف نحافظ على درجة من التضامن الإنسانى تحافظ على آدميتنا فى ظل الفردية المطلقة، دون أن نحطم هذه الفردية أو نفتئت على حريات بعضنا وعلى حقوقنا المتساوية، كيف نحمى الأمن والنظام اللازمين للحياة الجماعية دون أن تتوحش الدولة وتأكلنا جميعاً، كيف يتحرر الناس من السيطرة الخارجية على أرواحهم دون أن يسقطوا فى الفراغ والعدم، وهكذا.

هذه مشاكلنا جميعا، مشاكل البشر، فى الشرق والغرب والشمال والجنوب «عرب وغرب وهنود وأكراد وفرس وروم»، لا فرق بين أحد منهم. كلهم يواجهون هذه المشاكل داخل الدول التى يعيشون فى إطارها، وبينهم وبين بعض.

لكن بدلاً من التعامل مع هذه الأسئلة التى تواجه حياتنا اليومية، اخترع البعض منّا هويات- ثقافية أو قومية أو عرقية- وانشغلوا بها وبخيوطها المتشابكة المتعثرة، ثم تقاتلوا حولها. كركاب السفينة التى تهددها تقلبات الطقس وخلل البوصلة وضياع الخرائط، وهم يتشاجرون حول أعراقهم وأزيائهم.

نشرت في المصري اليوم بتاريخ ٤ فبراير ٢٠١٨