من يحتاج للسفراء؟

ظننت أنى أحلم. لكن أصدقاء لى اتصلوا ليتأكدوا أيضاً. الحقيقة أن الناس كلها حط على رؤوسهم الطير: من كان يحلم بيوم يأخذ فيه القادة العرب مثل هذه المواقف دُهش ولم يصدق. ومن كان يكره مثل هذه المواقف دهش أيضا ولم يصدق. لكن الجميع حبس أنفاسه وهو يتابع التطورات الدرامية التى غيرت وجه الشرق الأوسط والعالم.

ابتدأ الأمر بوزراء الخارجية العرب الذين قرروا تطبيق قرارهم القديم بقطع العلاقات الدبلوماسية مع أى دولة تنقل سفارتها للقدس على الولايات المتحدة. أعطى القرار سفراء أمريكا شهرا للرحيل، واستدعى السفراء العرب من واشنطن فورا. لكن بقية القرار كانت أهم: إغلاق السفارات الأمريكية بالكامل فى حالة قيام الولايات المتحدة بنقل سفارتها فعليا إلى القدس، وتكرار دعوة إسرائيل إلى التفاوض على انسحابها من الأراضى العربية المحتلة منذ عام 1967 مقابل السلام والتطبيع معها.

مؤيدو هذه النوعية من القرارات تخوفوا من أن يكون هذا تهويش لفظى

مكرر. لكن الذى حدث هو بدء السفراء العرب فى مغادرة واشنطن، وإبلاغ السفارات الأمريكية بوجوب مغادرة السفير خلال ثلاثين يوما. انبهر المؤيدون بهذا، وإن لم يعجبهم كلام الوزراء العرب عن التطبيع.

المتخوفون من هذه النوعية من القرارات لطموا، ورأوا فيها بداية الانجراف نحو سياسات الستينيات الحنجورية التى ملأت المشاعر فخرا، لكنها أضاعت مزيدا من الحقوق. عارضوا هذا المنحى، وإن أعجبهم الحديث عن استئناف التفاوض.

وترقب الجميع فى أى الاتجاهين ستمضى الدول العربية، لكنها أمسكت بالخيوط الرفيعة للسياسة، دون إفلات لها أو قطع. صفق القادة العرب الباب فى وجه ترامب، لكن لم يغلقوه فى وجه أمريكا. فبالتوازى مع طرد السفراء، أبلغوا البنتاجون باستمرار العلاقات والتسهيلات العسكرية القائمة. كما لم تصدر كلمة عربية واحدة عن سحب الأرصدة من أمريكا أو عن التأثير على تدفق البترول. وتحاشى القادة العرب الإشارات العدائية لإسرائيل، مكتفين بالتأكيد على عروبة القدس والمبادرة العربية للسلام.

قرارات قمة الرياض أربكت متابعى السياسة العربية أكثر. القرار الأول لم يفاجأ أحدا: دعوة الولايات المتحدة للالتزام بالموقف الدولى من القدس وبعلاقات الصداقة مع العالم العربى، وتحذير أى دولة من الإقدام على خطوة مماثلة، لكن القرارات الثلاثة الأخرى لم تكن متوقعة أبدا.

أول هذه القرارات كان خلق إطار للمصالحة الإقليمية. فقد طار الرئيس المصرى إلى طهران، وعاد مصطحبا الرئيس الإيرانى إلى قمة جمعته والملك السعودى. اتفق الثلاثة على ملامح المصالحة السعودية الإيرانية، بما يشمل وقف إطلاق النار فى اليمن وسوريا، وتسوية وضع حماس وقطر، والتهدئة فى لبنان، مقابل الاتفاق على ضمانات أمنية وملامح لنظام جديد للأمن فى الخليج، وعقد لجان ثلاثية لمتابعة تنفيذ هذه التعهدات وتطويرها إلى مصالحة عربية إيرانية أوسع.

ثم وصل الرئيس التركى إلى الرياض، واشترك فى قمة ثلاثية مع الملك المضيف والرئيس المصرى، تم فيها تسوية الملفات العالقة والاتفاق على إجراءات لتثبيت الوضع فى كل من ليبيا وسوريا.

ثم اجتمع القادة الأربعة، واتفقوا على خطة لوقف شامل للعنف وبدء عملية للانتقال السياسى فى سوريا، بقيادة الجامعة العربية ومشاركة الأمم المتحدة.

ثانى هذه القرارات كان يخص إسرائيل. فقد توقع الكثيرون أن ينجرف القادة العرب خلف قرار طرد السفراء الأمريكيين، ويمعنوا فى المزايدة اللفظية على أنفسهم حتى يتورطوا فيما لا يقدرون عليه، ثم يتراجعوا فرادى. لكنهم فعلوا العكس: شكلوا وفدا يضم قادة مصر والمغرب والأردن وقطر، وأعلنوا استعدادهم للتوجه لإسرائيل لطرح التصور العربى للسلام بما فيه جعل القدس بشطريها عاصمتين لفلسطين وإسرائيل.

القرار الثالث كان الإعلان عن إنشاء منظمة للأمن والسلام فى الشرق الأوسط، تضع الترتيبات الأمنية اللازمة لوقف العنف، وبناء الثقة، وتوثيق التعاون فى مواجهة التحديات الأمنية المختلفة- بما فيها مكافحة الإرهاب. وضمت هذه المنظمة إيران وتركيا مع الدول العربية (ودعت إسرائيل للانضمام فور توقيعها لاتفاق السلام)، كما دعت الصين وروسيا والهند والبرازيل والاتحاد الأوروبى والاتحاد الأفريقى والأمم المتحدة للمشاركة كمراقبين (ودعت الولايات المتحدة للانضمام كمراقب فور التزامها بالموقف الدولى من القدس).

التهدئة الفورية للوضع الأمنى حسنت المزاج العام فى المنطقة والعالم. وأسهم الارتباك الإسرائيلى إزاء عرض السلام العربى فى تقوية الموقف العربى دوليا. وهكذا لم يسفر تقلص النفوذ الأمريكى عن تصعيد للتوتر ولا عن تغيير لقواعد التعايش بين سكان المنطقة أو علاقاتهم ببقية العالم. لكن المبادرة انتقلت لليد العربية، وبدا الآخرون فى وضع رد الفعل لأول مرة.

الصين وروسيا كانتا أول القافزين على الفرصة السانحة فى الشرق الأوسط وما تتيحه من إمكانيات للتعاون الاقتصادى والاستراتيجى. وقد سهل هذا حسم الدول الأوروبية لموقفها- رغم الامتعاض الأمريكى- وانخراطها أكثر مع العالم العربى، على الأقل كيلا تتركه لنفوذ الصين وروسيا. كما أسهم استمرار العلاقات الاقتصادية والعسكرية مع الولايات المتحدة فى تهدئة رد الفعل الأمريكى. واستقر وصف ما يحدث بأنه مواجهة بين دول عربية عاقلة ورئيس أمريكى كسر القواعد، لا تمرد عربى يهدف للنيل من مكانة الولايات المتحدة.

لكن الحقيقة أن هذا التغير الهادئ فى الشرق الأوسط صار نقطة التحول فى دور أمريكا فى النظام الدولى. فقد وجد الجميع، داخل الشرق الأوسط وخارجه أن باستطاعتهم الحياة والتفاعل فى منطقة مهمة من العالم دون دور قيادى للولايات المتحدة. ولما كان لدى الرئيس الأمريكى مشاكل أخرى أكثر تهديدا له- سياسيا- من تخفيض الوجود الدبلوماسى الأمريكى فى الشرق الأوسط، ولم يكن هناك تهديد مباشر للمصالح الأمريكية، فقد انتهى به الأمر الى كتابة تويتته الشهيرة: «كل القادة العرب أصدقائى: من يحتاج للسفراء؟». ومن ثم لم يتراجع عن موقفه من القدس، وظل نفوذ الولايات المتحدة الدبلوماسى يتناقص. وبدأت مراكز القوة داخل أمريكا تعتاد على تآكل دور الإدارة فى الشرق الأوسط، ومن ثم تفاوضوا مع دوله الرئيسية حول ترتيبات جديدة لحماية مصالحهم.

الذى أدام هذا التحول هو نجاح مصر والسعودية وإيران وتركيا فى العمل سويا، فيما عرف بـ«توافق الشرق الأوسط». لم يكن أحد منهم يثق بنوايا الآخر، بل كانوا يكرهون الخير لبعضهم، لكنهم اتفقوا سويا على حماية مصالحهم، حين فهموا أنها متشابكة، وتعودوا على التفاوض على مدى نفوذ كل منهم بدلا من الصراع المستمر بينهم، وعلى تحديد مدى نفوذ القوى الخارجية فى منطقتهم، بدلا من أن يكونوا تابعين أو ضحايا له.

ثم ماذا؟

ثم استيقظت من أحلامى.

نشر في المصري اليوم بتاريخ ١٠ ديسمبر ٢٠١٧