ضد القومية

نظرياً، القومية شعور نبيل بالانتماء. من يمكنه الاعتراض على شعور بالانتماء إلى جماعة كبرى تعطيه جذوراً ضاربة فى الأرض التى يعيش عليها؟ انتماء إلى أجيال تراكم عطاؤها وتضحياتها تعطى إسهامه وعطاءه معنى أكبر مما يمكنه تحقيقه وحده مهما بلغت عظمته.

انتماء إلى أمة لها خصائص فريدة تميزها عن بقية البشر، لها إسهامها ورسالتها؟ من الذى يمكنه العيب فى الانتماء إلى وطن، بتاريخه العريق وإنجازاته التى يشهد لها التاريخ بالانتماء إلى أرض ترابها ذهب فى عينيه، ماؤها وخضرتها ورملها لا مثيل لها ولا عوض وإن أتته الدنيا كلها، لأنها وطنه ومهده وحاضنة ذكريات طفولته وصباه وتفتُّحه؟


نظرياً، الانتماء القومى شعور جميل، يُخرج الإنسان من عزلته وفرديته ليضمه مع المجموع، ويسمو به عن الانتماءات الضيقة، سواء كانت طائفية أو عرقية أو جهوية أو قبلية، ويصهر الجميع فى روح واحدة.


عملياً، تسببت القومية فى حروب وصراعات وأحقاد تاريخية دمَّرت حياة الملايين من البشر، ولا تزال. سجنت أتباعها فى أقفاص من الكراهية وأقنعتهم بأنهم أفضل من غيرهم، وأن غيرهم يتآمر عليهم، وأوهمتهم بأن سيادة العالم حق لهم أو واجب عليهم، وشحنتهم بخرافات رومانسية عن وحدة التاريخ والمصير كى تلقى بهم وقوداً فى أتون معارك عبثية لا يستفيد منها إلا حكامهم الدمويون ومن يساندهم.


يقول أنصار القومية إن العيب فى التطرف، ليس فى أصل الفكرة. يقولون إن المشكلة فى استخدام القومية لأغراض سياسية، لكن القومية الحقيقية بريئة من الدماء التى أريقت. يقولون إن العيب فى التطبيق، أما النظرية فسليمة. يجد أنصار القومية الأعذار والتفسيرات، مثلهم مثل أنصار كل دعوة أيديولوجية جلبت البؤس على الإنسانية حين اتبعها الناس. لكن التطبيق هو المهم، لأنه كل ما يتبقى لدينا بعد استماعنا للنظريات العظيمة. فى الحياة التى نعرفها- لا فى خيال مُنظِّرى القومية- انتصار القومية انتهى بأتباعها فى حروب ضد غيرهم، وضحايا يبلغون الملايين، فى صراعات لم تكن لتبلغ هذه الضراوة والقسوة دون تلك الانتماءات المدمرة.


التطبيق أهم من النظرية، ويشهد على ذلك جثث الملايين التى سقطت ضحية للقومية.
تبدأ القومية بمشاعر نبيلة تجمع الناس فى إطار واحد لكنها تنتهى دائماً بتقديس الاسم على حساب المسمى، بتقديس الوطن على حساب المواطنين، بتقديس «الأمة» (أى الفكرة، المجاز) على حساب الناس الحقيقيين (الذين لهم وجود ملموس، الذين يعيشون ويموتون). والمسألة منطقية. فمادام «الوطن» خالداً والمواطنون فانين، إذاً لـ«نموت نموت ويحيا الوطن». وتاريخياً أثبت الحكام استعدادهم الكامل للتضحية بالمواطنين بدعوى الدفاع عن الوطن (الذى يشكل مجازاً اسماً يشير لمجموع هؤلاء الذين سيضحى بهم). رفعة الوطن بالنسبة لهؤلاء الحكام، ولجوقة القوميين من ورائهم، عادة ما تعنى أحلاماً بالسيطرة على الغير أو العظمة مقارنة بالغير، وهى نتيجة مباشرة للشحن القومى.


فالقومية وإن بدت فكرة جميلة وطيبة القلب داخل حدود دولتها، تتحول لطاقة عدائية حين تلتقى بجيرانها. فليس من الممكن أن تكون كل الأمم أفضل من غيرها، ولا أن تكون كلها مهد الحضارة، ولا أن يكون لها كلها حق أو واجب قيادة العالم وسيادته، ولا أن تكون كلها ضحية ظلم وتآمر الأمم الأخرى. ومادام هذا الخطاب جزءاً لا يتجزأ من تعريف كل قومية فإن القوميات لا محالة ستنتهى للصدام. إن كان ما يميزنا كأمة عن جيراننا أن لنا صفات تجمعنا معاً وتفصلنا عنهم (ودائما تكون هذه صفات حميدة) فما نتيجة ذلك على شعورنا إزاء هؤلاء الجيران؟ وإذا كانوا هم أيضاً يشعرون بنفس هذه المشاعر، فكيف سينتهى بنا الأمر حين يستطيع أحدنا هزيمة الآخر؟


تعيش القومية على تغذية كراهية الغير والإعداد للانتقام منه والسيطرة عليه، إن آجلاً أو عاجلاً حسب ظروف «الأمة». فالقومية المصرية- العربية، على سبيل المثال، تعلمنا أنا وأنت وهى وهو ممن نعيش فى عام 2017 أننا جزء لا يتجزأ من أمة مصرية عربية إسلامية ممتدة عبر التاريخ، تعرضت للتآمر والظلم والاستعباد والاستغلال عبر القرون، بعد أن كنا نسود العالم ونقوده فى عصرنا الذهبى القديم. أنت، شخصياً، من انتصرت مع أحمس، وسقطت مع كليوباترا. أنت من انتصرت ضد الفرس والروم، ومن ضعفت يوم ضعفت الدولة العباسية. أنت من عبرت البحر إلى الأندلس وأنت من ضعت يوم استسلم آخر ملوك الطوائف. أنت من علقت على باب زويلة حين انتصر العثمانيون على المماليك ودخلوا القاهرة. وأنت أيضاً من هُزمت على أسوار فيينا حين هزم العثمانيون ورُدُّوا على أعقابهم. أنت من هُزمت حين انتصر السلطان العثمانى على محمد على بمساعدة إنجلترا، وأنت أيضاً من هُزمت حين انقلبت إنجلترا على السلطان وقسمت أملاكه مع حليفته الجديدة. أنت ضحية سايكس- بيكو، أنت شخصياً، وأنت اليوم ضحية مؤامرة تكسير سايكس- بيكو. من الآخر، أنت ضحية كل ما حدث، لكنك عظيم فى الأصل وكان لك أيامك، ولو كنت تحترم نفسك، فلابد من أن تفعل شيئاً لمحو هذه الهزائم واستعادة مجدك الضائع. وإن لم تستطع إلى ذلك سبيلاً فعليك على الأقل أن تعرف عدوك، وتكره كل هؤلاء الذين أسهموا فى إضعافك عبر أكثر من ألف عام، وأن تُبقى جذوة الغل مشتعلة فى نفسك ونفس أولادك حتى يأتى من يوقد النار شاملة ويطلب الثأر كاملاً ويريح القوميين فى مرقدهم.


ممن سننتقم بالضبط؟ ألم يمت كل هؤلاء المجرمين؟ تعلمنا القومية أن الذى ظلمنا ليسوا بشراً محددين عاشوا فى زمن محدد وماتوا، بل هم «هويات»، حية لا تموت، تتوارث عبر الأجيال. وحتى لو لم تلتصق الهويات جيداً فلا بأس من التقريب لتسهيل الضغينة. فالإيرانيون اليوم هم ورثة الفرس الذين حاربهم العرب المسلمون الأوائل (ونحن ورثة هؤلاء العرب المسلمين مع أن المصريين ساعتها لا كانوا عرباً ولا مسلمين). والأتراك اليوم هم ورثة العثمانيين (لكن مشاعرنا إزاءهم مرتبكة بسبب ارتباك مشاعرنا إزاء العثمانيين). الأمر أسهل مع الأوروبيين: فالإسبان اليوم هو ورثة قشتالة وأراجون، والبريطانيون اليوم ورثة البريطانيين الاستعماريين، إلى آخره.
وهكذا، تقسم القومية البشرية إلى علب تكتب عليها أسماء هذه الهويات المصنوعة، الوراثية، وتعطى لأصحاب كل هوية «ثأراً» مع الهويات الأخرى. وهكذا تنقسم البشرية إلى أمم تسعى للثأر من بعضها البعض على جرائم قديمة لا يربطها بالحاضر سوى هذه الهويات المصطنعة وحكاياتها الدموية.
بالطبع هناك نتائج مستمرة لجرائم قديمة، لكن هذه قصة أخرى.

نشر في المصري اليوم بتاريخ ٢٦ نوفمبر ٢٠١٧