التربية القومية

المشاعر القومية – أى إحساس الناس أنهم جزء من أمة واحدة ممتدة عبر التاريخ – اختراع حديث، لم يمر عليه فى العالم العربى أكثر من مائة سنة، ولم تعرفه البشرية بأكملها إلا من حوالى ثلاثة قرون. قبل ذلك كان الناس يعيشون بمشاعر انتماء أخرى: إلى جماعة عرقية، أو دينية، أو قبيلة، أو منطقة. ولم يكن لهذه الهويات أهمية سياسية تذكر.

فقد كان هناك فصل شبه تام بين الانتماء وبين الدولة، فالعديد من المدن والمناطق الأوروبية انتقلت من سيادة قيصر روسيا إلى سيادة قيصر ألمانيا أو إمبراطور النمسا أكثر من مرة، حسب نتائج الحروب بين هؤلاء القياصرة، دون شعور السكان بتناقض بين انتمائهم لمدينتهم أو لمنطقتهم وبين هوية الحاكم. كل ما فرق معهم هو مدى سطوة وظلم هذا القيصر أو ذاك وثقل يد عساكره وجامعى ضرائبه، وما إذا كان يتدخل فى طريقة حياتهم – بما فيها شعائرهم الدينية – أم يتركهم فى حالهم. كما انتقلت السيادة على القاهرة من الدولة الأموية إلى العباسية إلى الطولونية إلى الإخشيدية، وهكذا دون أن يشعر أهل القاهرة بعلاقة هذا الأمر بانتمائهم، لا للقاهرة ولا للدين الإسلامى، كل ما فرق معهم هو مدى عدالة أو ظلم الحاكم، أو مدى قسوة الضرائب وسطوة العسكر.

فى كل هذه الحالات كان هناك فصل بين انتماءات الناس وبين علاقتهم بالدولة. صحيح أن التقاطع بين الأمرين كان أحيانا يلعب دورا فى تثبيت قواعد الحكم، لكنه لم يكن العامل الأساسى، فالانتماء المسيحى ساعد على تثبيت حكم الإمبراطوريات الأوروبية على رعاياها (لكنه لم يمنع تنقل العديد من المناطق بين سيادة دول أوروبية مختلفة وفى كثير من الأحيان متحاربة)، كما أن هناك مناطق مسيحية – فى شرق ووسط أوروبا – خضعت لسيطرة حكام مسلمين لعقود طويلة، بالمثل فإن الانتماء للدين الإسلامى ثبت من دعائم الحكم فى حالات كثيرة، مثلما حدث مع الغزو العثمانى لمصر، لكنه أيضا لم يمنع حكاما غير مسلمين من السيطرة على مناطق يسكنها مسلمون لعقود طويلة. كان الحكام والعسكر فى كثير من الحالات «أجانب» عن أهل البلاد التى يحكمونها. استقر حكمهم حين حافظوا على طاعة السكان وهزموا أعداءهم، وانهار حكمهم حين بطشوا بالسكان لدرجة دفعتهم للعصيان أو حين هزمهم أمراء وملوك تحدوا سلطتهم وحلوا محلهم. حدث هذا فى العالم كله، شرقا وغربا، بغض النظر عن الديانات والثقافات وقصص الهوية.

ظل هذا الفصل قائما بين الهوية وبين علاقة الناس بالدولة حتى ظهر نوع جديد من الدول: الدولة القومية. تم ذلك بالتدريج ابتداء من منتصف القرن السابع عشر ولم يكتمل إلا مع الحرب العالمية الأولى، حين سقطت آخر الإمبراطوريات الكبرى وبدأت عدوى الدولة القومية تنتشر خارج أوروبا.

الحكام الجدد أنشأوا دولهم على أراض اقتطعوها من إمبراطوريات قائمة أو بالاستيلاء على إمارات وضمها لبعضها تحت سيطرتها. فى الحالتين برروا هذه السيطرة وحدودها بهوية قومية كانت لا تزال فى طور الولادة، هكذا بدأ الحديث عن فرنسا وإيطاليا وألمانيا وغيرها. لم تكن هذه الوحدات قائمة تاريخيا. لم يكن هناك شىء اسمه فرنسا ولا أمة فرنسية ولا إيطاليا ولا أمة إيطالية. هذه الوحدات السياسية جديدة، حديثة، وهذا المفهوم عن «الأمة» أيضا جديد، حديث، اخترع اختراعا، وواكب اختراعه عملية بسط لسيادة ملوك جدد باسم القومية. وفى إطار عملية اختراع الأمم هذه ولدت حكايات عن الماضى فى كل دولة تعيد تصوير تاريخ الناس والمكان الذى يعيشون فيه بالشكل الرومانسى الذى نعرفه اليوم: الأمة الموجودة منذ القدم، التى تتمتع بشخصية فريدة تميزها عن بقية الأمم، الأمة الواحدة ذات الرسالة الخالدة، التى عادة ما تأخذ صورة امرأة، الأم الحنون أو الزوجة الوفية، الأرض والعرض والتراب المقدس، والأغانى والشعر، والتضحية بالغالى والنفيس من أجل هذه الأمة، وكلنا نموت وتحيا هذه الأمة لأنها لا تموت، لأنها عابرة للتاريخ، لأنها أزلية، ولدت مع تضاريس المكان وعبقريته، وهى أسبق من الزمان وعلمت العالم الحضارة، إلى آخره.

تجلت فائدة هذه المشاعر الجميلة فى توفير آلاف من الشباب المستعدين للموت بالمجان فى جيش الملوك الجدد الذين يبنون الدولة القومية، بدلا من الجيوش المحترفة التى كانت تعبئتها تكلف الملوك القدامى ما لا طاقة لهم به، والتى ظلت تشكل التحدى الرئيسى أمام قدرة الملوك على الحرب حتى أواخر القرن الثامن عشر حين اكتشف قادة فرنسا الثورية الفرصة العظيمة التى توفرها المشاعر القومية الوليدة، فاخترعوا التعبئة العامة وتجنيد الفلاحين لأول مرة «دفاعا عن الوطن الأم». التعبئة العامة والتجنيد الإجبارى حل مشكلة تمويل الجيوش: ملايين الشعب تدق الكعب تقول كلنا جاهزون، وبلا مقابل.

مر الشرق الأوسط بعملية مشابهة مع تحلل الإمبراطورية العثمانية. ومن يقرأ كتابات القوميين العرب الأوائل (من بطرس البستانى إلى ساطع الحصرى إلى ميشيل عفلق إلى قسنطين زريق) يستطيع أن يلمس بوضوح جانب «الصناعة» و«الاختراع» الذى صاحب «الدعوة» إلى القومية العربية. نفس الشىء تكرر فى «الدعوات» المناهضة، سواء إلى هويات قطرية، مثل الوطنية المصرية وغيرها، أو تلك المرتبطة بالبحر المتوسط أو غير ذلك. كل هذه الهويات «بدأت»، «ولدت»، «نشأت»، كانت «دعوات»، «أفكار»، «مشروعات»، وقدم كل منها أسبابا لإقناع الناس بأفضليتها، كما قدمت سردا للتاريخ وضع هويتها فى محوره وأعاد سرده من حولها، فكنا عربا (وفى رواية أخرى مصريين) منذ فجر التاريخ دون أن ندرى. كان «وعينا القومى» «نائما»، ثم استيقظنا وأفقنا لعروبتنا (أو مصريتنا) منذ مائة عام. ونبحث فى التاريخ القديم والحديث عن أبطال جسدوا هذه العروبة (أو المصرية) قبل أن تكون، فنجعل من إبراهيم باشا (الألبانى) أول القادة العروبيين (أو من الملك مينا أول القادة المصريين)، أو نجد ميولا قومية عروبية عند على بك الكبير فى مصر أو ظاهر العمر فى فلسطين (أو ميولا وطنية مصرية حتى عند طومان باى الشركسى أو محمد على الألبانى). ثم نكتب عن «شخصية مصر» و«عبقرية المكان» وننظم الأشعار وننسج القصص وننشد الأغانى، وتدخل كل هذه الاختراعات، كل هذه الحكايات والسرديات، فى باب «الثوابت الوطنية» الذى يعتبر الخوض فيها «تشكيكا». هكذا ولدت الهوية الوطنية (أو القومية) وترعرعت.

لكن هذه المشاعر القومية الرومانسية أتت بكوارث لم يسبق لها مثيل فى تاريخ الإنسانية.

نشر في المصري اليوم بتاريخ ١٢ نوفمبر ٢٠١٧