ضرورة كراهية الغرب

كثيرون ممن صفقوا لإدوارد سعيد حين عرى الاستشراق، سقطوا هم أنفسهم فى رؤية مماثلة للغرب.

فمثلما يغفل المستشرقون التباينات الشاسعة داخل العالم العربى، ولا يرون صراعاته حول دور العقل وتفسير الدين ودور العنف وقيم المساواة والتسامح والحرية، يغفل «المستغربون» العرب التباينات الشاسعة داخل المجتمعات الغربية والصراعات التى تعتمل داخلها.

ومثلما اختصر المستشرقون المجتمعات والثقافات العربية فى صور ألف ليلة وملذاتها وأفعال «داعش» وفظائعها، يختصر «المستغربون» المجتمعات والثقافات الغربية فى صور الانحلال وملذاته وجرائم الاستعمار ومؤامراته. لا يرى «المستغربون» صراعات المجتمعات الغربية حول علاقة الدين بالدولة، وحول حقوق المرأة، وحول المساواة بين الأعراق والأديان، وحول الحرية الفردية وتضاربها مع «قيم المجتمع». لا يرى هؤلاء «المستغربون» قيما روحية فى المجتمعات الغربية، ولا علاقات رحمة ومودة وتضامن اجتماعى. كل ما يرونه هو مجتمع مادى، بارد، منحل، بلا رابط، تماما كما وصفه سيد قطب فى «أمريكا التى رأيت»: نساء منحلات، رجال بلا نخوة، عائلات مفككة، كنائس تسوق للرذيلة، مجتمع قيمته الأسمى جمع المال، وبشر يتراوحون بين مادية الآلة وغريزة الحيوان. إضافة طبعا للجانب الاستعمارى لهذا «الغرب».

ومثلما يقلل المستشرقون من شأن أنصار العقل والحرية والمساواة فى المجتمعات العربية باعتبارهم شرقيين يقلدون الغربيين أو باعتبارهم أقلية لا وزن لها، يقلل «المستغربون» من شأن أنصار العقل والحرية والمساواة فى المجتمعات الغربية باعتبارهم يتشدقون بقيم لا يؤمنون فعلا بها أو- فى أحسن الأحوال- أقلية لا وزن لها. وهكذا، يردد هنتنجتون وسيد قطب، فى نفس واحد، مقولة الشاعر الإنجليزى رديارد كيبلنج: «الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا».

المفارقة الدرامية فى التشابه بين رؤية الجلاد والضحية لبعضهم البعض أن هذا التشابه يجعل الضحايا يستمرئون خضوعهم للجلاد ويرون سيطرته أمرا محتوما لا سبيل إلى دفعه أو مقاومته.

فمثلما يؤدى الاستشراق وظيفة سياسية، تؤدى «الغربنة» أو «الاستغراب» (أو أيا كانت تسمية هذا الاعتقاد فى الصورة النمطية للغرب الذى يملأ كتبنا وأفلامنا وكلامنا) وظيفة سياسية مكملة لها. وظيفة الاستشراق هى إعطاء المواطن الغربى مبررات عقلية وأخلاقية لكيل حكومته بمكيالين، لاتباع دولته «المتحضرة» لأساليب بربرية فى مستعمراتها. حين يعترض أنصار الحرية والمساواة فى المجتمعات الغربية على سياسات حكوماتهم الاستعمارية، يرد المستشرقون بالإجابة الجاهزة: إن العرب (و«الشرقيين» عموما) أناس يحركهم التعصب الدينى والعاطفى، ويفتقدون للعقلانية وما يصاحبها من ضبط للنفس، لا يفهمون المساواة: يخافون الأقوى ويقسون على الأضعف، وبالتالى لا يمكن حكمهم إلا بالسيف.

فى المقابل، وظيفة «الغربنة» هى إعطاء المواطنين العرب المبرر العقلى والأخلاقى لاستمراء خضوع المجتمعات العربية وتخلفها الاجتماعى والسياسى. فمن ناحية، كلما لطخنا صورة المجتمعات الغربية هان علينا مصابنا. مهما كان تخلفنا العلمى والتقنى واعتمادنا على غيرنا، يبقى أننا أرقى روحيا منهم وأسمى. ومهما كان تفوقهم كاسحا فإن عليهم عار المادية والانحطاط الخلقى. ومهما تفوقت جامعاتهم وعلماؤهم فى المجالات الاجتماعية والإنسانية، تظل قيمهم وإنسانيتهم شعارات جوفاء يتشدقون بها، أما نحن فأصحاب القيم والإنسانية الحقيقية مهما ساء حالنا.

ومن ناحية أخرى، فإن هذا التصور النمطى عن «طبيعة الغرب» تجعل سيطرته على العالم العربى مفهومة وتكاد تكون أمرا طبيعيا، أو على الأقل أمرا لا يمكن تغييره فى المدى المنظور. فوفقا لهذا التصور النمطى، «الغرب» «بطبيعته» استعمارى، لأنه مجتمع مادى وعملى وعقلانى بارد تحكمه الخسة والتآمر والوحشية وتغليب المصلحة على أى اعتبار أخلاقى أو إنسانى. هذه الصفات (وفقا لنفس هذا التصور النمطى)- هى التى صنعت تفوقه المادى والتكنولوجى وجعلته يضرب محاولاتنا للنهضة بلا رحمة، من محمد على حتى اليوم، وسيستمر حتما فى ضربها فى المستقبل إن حاولنا النهضة. ومن ثم ينحى هذا التصور النمطى جانبا كل الأسباب والظروف التاريخية والسياسية والاقتصادية والفكرية التى أدت لنشأة الظاهرة الاستعمارية وتطورها. ينحى جانبا الصراع بين القوى الاجتماعية والسياسية التى دعمت الاستعمار واستفادت منه وتلك التى عارضته وعانت من نتائجه. وهكذا، بدلا من فهم نشأة الاستعمار وسياقه ينتهى بنا الأمر فى اعتقاد نمطى أن الاستعمار صفة نابعة من «طبيعة الغرب»، وبالتالى أنها أزلية لا يمكن أن تتطور أو تتغير أو تنتهى.

«الغربنة»، تنميط المجتمعات الغربية ووضعها فى سلة واحدة عدائية ومكتملة الشر وتدعيم كراهيتها، ضرورى لتسهيل ابتلاعنا لغصة انهيارنا وللتعايش مع اليأس من النهضة، أى ضرورى للقبول باستمرار خضوعنا. فمن يمكنه تحدى «الغرب» إن كان يسيطر علينا من كل نافذة وباب؟ لا أحد سوى انتحاريين أو مأفونين أو عملاء مدسوسين يجرونا لمواجهات لا قبل لنا بها كى ينكل «الغرب» بنا أكثر. باختصار، تنميط الغرب وكراهيته ضرورة سياسية لقبولنا بالسلوك «العاقل المسؤول»- أى تقبل التخلف الاجتماعى والسياسى كأمر لا يمكننا تغييره فى المدى المنظور.

من هنا أهمية مراجعة تصوراتنا النمطية عن الغرب. الأمر ليس ترفا فكريا منبت الصلة بالمشاكل التى نغرق فيها مجتمعا ودولة. فرؤيتنا النمطية للغرب، وكراهيتنا له، هى أس البلاء كله، وترتبط ارتباطا لا يمكن فصمه برؤيتنا لأنفسنا ومشاكلنا وكيفية مواجهتها. رؤيتنا للغرب هى امتداد لرؤيتنا لأنفسنا. ولن تستقيم رؤيتنا لأنفسنا، لن يستقيم حالنا كمصريين وعرب، حتى نرى «الغرب» رؤية أكثر توازنا وواقعية وأقل تنميطا وكراهية. التحرر من أوهام «الغرب» و«الشرق» ومن أوهام الصراع بينهما، ومن كراهية الغرب والشعور بالظلم التاريخى هى الخطوة الأولى الضرورية كى نفيق مما وصلنا إليه وللسعى الناجح لتصحيح اختلال موازين العالم.

الإفاقة من هذه الصور النمطية الأسطورية ضرورى كى نتبنى سبل التنمية الإنسانية اللازمة لإخراج مجتمعنا من الظلمات إلى النور دون مخاوف مرضية من فقدان هويات اخترعناها اختراعا. الإفاقة من هذه الصور النمطية المصطنعة ضرورى كى نتصرف كبشر، عاقلين ومسؤولين عن تصرفاتنا وشركاء فى عالم واحد مع بشر مثلنا. الإفاقة من هذه الأساطير ضرورة لرؤية أنصار العدالة والحرية والمساواة فى العالم كله باعتبارهم شركاء لا أعداء. الإفاقة من هذه الأساطير التاريخية ضرورة كى نتعامل مع الدول الأخرى دون عقد وحساسيات تمنعنا من الاستفادة حين تكون الفائدة ممكنة. الإفاقة من هذه الأساطير ضرورة كى نستطيع التمييز بين من يساعدنا ومن يضرنا، وبين ما يساعدنا وما يضرنا.

المفارقة الكبرى أن من يروجون الصورة النمطية لـ«الغرب» ولكراهيته هم أكثر من يديم سيطرته، وأن من يدعون لتجاوز الصور النمطية الأسطورية للشرق والغرب هم من يسعون فعليا لتصحيح اختلال الموازين القائمة وإقامة عالم أكثر عدالة.

نشر في المصري اليوم بتاريخ ٢٩ اكتوبر ٢٠١٧