المقال الأخير

الكتابة الصحفية ليست مهنتى، وإنما هى شباك أطلّ منه على المجال العام من وقت لآخر: أقول رأيى فيما يجرى، أو ما لا يجرى وأراه ضروريا. أحيانا توافق آرائى هوى البعض فيشيد بها، وأحيانا تخالفه فينتقدها أو يشتمنى- حسب أخلاقه. أحياناً تجانب الصواب وأحياناً تصيبه. فى كل الأحوال فإنى أتوخى ما أعتقد بصدق وموضوعية أنه يحقق الصالح العام لهذا البلد وناسه. أفعل هذا باعتبارى مواطناً، ليس لدىّ بلد أنتمى إليه وأملكه غير مصر، وأحب الحياة فيه بكرامة وأمان. لا شىء غير هذا يهمنى، لا مصلحة لى فى الموضوع غير هذا، فلست سياسياً أقود حزباً أو أرشح نفسى فى انتخابات، ولم تتغير وظيفتى أو مهنتى– أو دخلى- خلال السنوات التى كتبت فيها رأيى. كل ما أفعله هو التعبير عن رأيى حتى أشعر أنى قلت ما لدى، فأغلق الشباك وأتوارى فى هدوء كما جئت. فعلت هذا مرات، واليوم أكررها، فأغلق شباك كتابة الرأى، وأعود من حيث أتيت، ولو إلى حين.

ليس توقفى غضباً ولا يأساً أو تخلياً. صحيح أن لدى كثيراً من الشكوك حول جدوى كتابة الرأى فى ظرف لم يعد أحد يسمع فيه أحداً (كما قلت فى مقالى «هستيريا» من عدة أسابيع) لكن هذا وحده ليس سبباً للتوقف عن الكتابة. الحقيقة أعقد قليلاً من هذا. فقد تساءلت فى ذلك المقال عن جدوى الكتابة، وبعد بحث ومناقشات فهمت أن الكاتب يكتب ليعبر عما بنفسه، لأن هذا كل ما يستطيع فعله، وليس بالضرورة كى يحدث أثراً ما. فهمت، لكنى لم أشعر أن هذا السبب يكفينى، غالباً لأن الكتابة الصحفية ليست مهنتى. فمن كانت الكتابة الصحفية مهنته لا يتساءل عن جدواها إلا من باب الفضفضة والأسى، لكنه لا يكف عنها. تماما مثلما لا أسأل أنا عن فائدة الكتابة الروائية، أو التدريس أو الدبلوماسية: هى أشياء أحب فعلها حتى لو كانت بلا فائدة. ومادمت أسأل بجدية عن جدوى كتابة مقال الرأى، فربما يعنى هذا أنى قد مكثت واقفاً أكثر مما ينبغى فى شباك ليس لى. حين توقفت عن كتابة مقالات الرأى فى 2008 كتبت رواية «أبوعمر المصرى»، وحين توقفت فى نهاية 2009 كتبت رواية «عناق عند جسر بروكلين»، وحين توقفت فى أوائل 2012 كتبت رواية باب الخروج. ربما إذا حان الوقت لإغلاق هذا الشباك والعودة للغرف التى أحبها.

لم أعتد الكتابة عن أمورى الشخصية، وكنت أود لو أتوقف فى صمت، لكنى مدين بالتوضيح لمن كان يتابع مقالاتى، وكيلا أترك المجال للفتى، وإحقاقاً للحق، فقد كانت جريدة «المصرى اليوم» مثالية معى: لم يعترض أحد ممن تولوا تحريرها طيلة مدة كتابتى (ثلاثة رؤساء تحرير) على كلمة كتبتها، أو حاول بشكل من الأشكال التأثير فيما أكتب. ولم ألق من الجريدة وإدارتها سوى الترحيب والتعاون والحرص على مواصلتى الكتابة على صفحاتها. كل ما هنالك أنى وصلت لآخر الخط، خطى أنا، ولم يعد لدى ما أضيفه على ما قلته حتى الآن، وأريد العودة لقواعدى.

عشمى ألا يغضب منى القارئ الذى كان يتابعنى، وألا يعتبرنى تخليت عنه، فيمكنه أن يعود دوماً- إذا أراد رأيى- لما كتبته خلال الشهور الماضية، وهى بكثافة أحداثها شملت معظم الموضوعات التى أحسبها ستظل معنا. وإن غضب قارئ لتوقفى عن الكتابة فإنى على ثقة أن ذلك سيسعد قراء آخرين. منهم هؤلاء الذين سبونى كونى من أنصار ثورة يناير- «مخربا» و«عميلا» و«خائنا أعظم» كما قال بعضهم، وهؤلاء الذين سبونى باعتبارى سبباً فى فشل ثورة يناير وسجن شبابها ومحاكمة زبائن بنزينة «وطنية» عسكريا، وهؤلاء الذين سبونى لأنى دعوت لوفاق وطنى، ورأوها محاولة مستترة لإعادة الإخوان للسلطة، وهؤلاء الذين سبونى لأنهم رأوا أنى «انقلابى» حين أيدت ثورة 30 يونيو، وقلت إنها تهدف لاستعادة الثورة التى خطفها الإخوان، وهؤلاء الذين سبونى لأنى دعوت لمشاركة بين الجيش والقوى الديمقراطية باعتبارها ركيزة ضرورية لبناء مصر المستقبل، وهؤلاء الذين سبونى، لأنى «نخبة فاسدة» لا تشغل نفسها بهموم المواطن التعيس. يسعدنى التفكير أن توقفى عن كتابة مقال الرأى سيسعد كل هؤلاء – أى كل ألوان الطيف السياسى تقريبا. فإن كنت لم أفلح فى إسعاد الكثيرين بالكتابة، فإنى على ثقة أنى سأسعدهم بالتوقف.

لهؤلاء وهؤلاء وغيرهم أقول سلام عليك أيها القارئ، ودعواتى لك بمواصلة القراءة وربما، ربما، ببعض الصبر والتعاطف وحسن النية ومحاولة فهم الآراء المخالفة، فما تعلم أحد شيئا من الآراء التى توافقه.

سأتوارى إذن: أغلق هذا الشباك الذى فتحته منذ عشرة شهور تقريبا. وأعود لغرفة الرواية التى أحبها، ومهنتى التى أعرفها، وأترككم فى رعاية الله وحفظه.

نشر في المصري اليوم في ٢٣ أغسطس ٢٠١٤