الحالمون والهائمون

الحياة بعيدا عن الأحلام بؤس وملل، لكن الحلم بعيدا عن الحياة تهاويم وهلاوس. الفارق بينهما بسيط ولكنه ضخم: قدرتك على اتخاذ خطوات ثابتة فى الواقع تقربك من الحلم، ولو قليلا.

هذه الخطوات دائما ما تكون أقل من الحلم نفسه، ولذا نسميها حلولا وسطا. وهى ليست هدايا يلقيها لك خصومك، بل هى غاية ما تستطيع قوتك أن تحققه لك. ففى أى صراع سياسى (أو عسكرى) تحشد قوتك ويحشد الآخرون قوتهم، بدرجات متفاوتة. أتحدث هنا عن القوة بأنواعها: عسكرية كانت أو سياسية أو إعلامية أو تنظيمية أو حتى أخلاقية. وأتحدث عن القوة الفعلية، تلك التى تحشدها وتضعها تحت يدك وتستطيع استخدامها الآن وفورا، لا تلك التى يمكن أن تبنيها أو يمكن أن تتجمع لك لو تصرف الآخرون كما تريد. فى الصراع السياسى (بما فى ذلك ما يأخذ الطابع الثورى والعسكرى) تتدافع القوى، ويرسم الخط الفاصل بينها حدود الحلول المتاحة للأطراف. هذه هى الحلول الوسط، لأنه مهما كانت قوتك لن تستطيع أن تحقق أهدافك بالكامل: فلا أحد ينتصر بالكامل وتماما إلا فيما ندر (وعادة لفترة محدودة).

القبول بالحلول الوسط ليس استسلاما ولا خنوعا أو انهزامية. بل إدراك لحدود قوتك وما يمكنك تحقيقه الآن وفورا، ورغبة فى تكريس المكاسب التى حققتها أو الحد من الخسائر التى أصابتك. بهذا المعنى، فالقبول بالحلول الوسط يكون خطوة نحو تحقيق الحلم، وليس إنهاء لهذا الحلم. الذى يحدد مصير حلمك هو امتلاكك لرؤية واضحة لكيفية تحقيقه، وتصميم على مواصلة السعى خلفه، وقدرة على حشد وتنظيم صفوفك خلف كل خطوة تخطوها، بحيث يكون الحل الوسط المقبول حجرا تبنى عليه خطواتك التالية وليس آخر خطوة تتخذها.

رفض الحلول الوسط ظاهره بطولة ونبل، وباطنه عدم مسؤولية يدمر الذات والحلم معا. فالأحلام لا تتحقق لمجرد كونها مطالب مشروعة. لا يكفى أن يكون الحق معك كى تنتصر: يجب أن تكون لديك قوة تسنده بها. كما لا تتحقق الأحلام فقط نتيجة استعدادك للتضحية، فالتضحيات مهما علت- من الشهداء للسجناء- لا تقربنا من تحقيق الحلم إلا بقدر استطاعتنا حسن استخدامها. التفاوض بعد التضحية ليس «مساومة على الدم»، بل سعى لتحقيق الهدف الذى بُذلت من أجله.

وظيفة السياسى القائد أن يدفع بأتباعه خطوات نحو حلمهم لا أن يدمرهم باسم هذا الحلم. فإن استل سيفه وهاجم الخصم دون أن تكون لديه القدرة على رد الضربات التى ستأتيه حتما، ثم نزل عليه الخصم وعلى أتباعه قمعا وسجنا وتنكيلا، وسحق القوة التى كان قد بناها فتركه هو وأتباعه مشتتين مكتئبين يلوذون بالمرارة عوضا عن الانتصار، وبالتمسك اللفظى بالحلم عوضا عن التقدم نحو تحقيقه، فبم تصف فعله إن لم يكن سوء تقدير وانعداما للمسؤولية؟

حين ترفض الحلول الوسط دون أن يكون لديك بديل عملى واقعى يمكنك تنفيذه ويقربك فعلا من حلمك لا تكون حالما، بل هائما على وجهك. ولا يفيد فى شىء، ولا يقلل من جرمك السياسى فى شىء أن تعلل قراراتك غير المسؤولة بنذالة خصمك (فلا يفترض فى الخصم حسن الأخلاق أبدا) أو بفشل غيرك الذى اتبع طريقا غير طريقك (لأن فشل غيرك لا يجعل فشلك أنت نجاحا).

بعض القادة يرفضون الحلول الوسط، لكنهم من الذكاء بما يكفى لأن يتركوا شركاءهم يقبلونها ويبنون عليها خطوات المستقبل. يجعل هؤلاء القادة من أنفسهم رمز الحلم، ويصبحون المعيار الذى يقيس عليه الناس مدى تقدمهم نحو تحقيقه. لكن- لأنهم أذكياء- فهم يعلمون أن الحلم لا يتحقق بين عشية وضحاها، وأن ألف حل وسط يجب قبوله قبل أن نصل لحدود هذا الحلم. فيتركون مهمة قبول الحل الوسط لشركائهم، دون الاصطدام بهم أو إدانتهم أو إعاقتهم، بل على العكس، يسخرون قوتهم السياسية وأتباعهم لخدمة تقدم شركائهم على طريق الحلول الوسط، ويبقون هم جالسين على حدود الحلم يحرسونه.

الحرية والمساواة أحلام مشروعة، مثل بقية حقوق الإنسان، لكنها لم تتحقق من تلقاء نفسها فى أى مجتمع، بل من خلال صراع سياسى تديره قيادة متماسكة يلتف حولها أصحاب الحلم وتستطيع أن تتفاوض باسمهم وأن تقبل حلولا وسطا فيتبعوها، وأن تواصل الصراع وتغير أساليبها حسب الموقف والسياق، دون أن ينفضوا عنها وينعتوها بالخنوع. هكذا نجحت حركة الحقوق المدنية فى أمريكا، وحركات حقوق المرأة فى العالم كله، وغيرها من الحركات الاجتماعية والثورية الكبرى، فى تحقيق ما حققته من أهدافها.

هذا هو سبيل تحويل الأحلام السياسية لواقع، لا الغرق فى تهاويم الحلم وإضاعة الواقع. أما من يفضل الهروب من قسوة الواقع وإلقاء نفسه على سيفه غضبا من الدنيا وقوانينها، فليترك الصراع السياسى ويتفرغ للتهاويم.

نشر في المصري اليوم بتاريخ ٩ أغسطس ٢٠١٤