كيف ندير صراعنا

قلت فى الأسابيع الماضية إن المجتمعات المسماة الحديثة- وأحيانا الغربية- لم تحسم الصراع الثقافى بين قواها الاجتماعية بالكامل، ولكنها بعد عقود من الحروب الدموية استقرت على إدارة هذا الصراع من خلال آليات السياسة فى الدولة الديمقراطية الحديثة بدلاً من القتل والصلب وحز الرؤوس. أما نحن فقد وقفت الدولة وسيطا بين القوى الاجتماعية المتصارعة (وتعبيراتها السياسية المختلفة)، فحالت دون انفجار الصراع لدرجة الحرب، ولكنها أيضا حالت دون حسمه، وظلت الدولة جالسة على هذا الصراع تكتمه معظم الأحيان، وتستخدمه أحيانا ضد من ترى، ويجرها أحيانا أخرى إلى ما لا ترغب فيه. وفى كل حال، فقد أخذت سيطرتها على هذا الصراع تتقلص خلال العقود الأخيرة، كجزء من عملية العولمة بأبعادها المختلفة. وفقا لهذه القراءة لا يمكن فهم الصراعات السياسية الجارية فى العالم العربى- ما يسمى أحيانا الربيع العربى- دون النظر للصراع الثقافى المحتدم بين الإسلاميين بأنواعهم، وأنصار التحديث بأنواعهم، والملتفين حول ثقافة الدولة بأنواعهم.

وأكرر اعترافى بأن طرحى هذا به الكثير من التبسيط، لكن تستحيل مناقشة موضوع بهذا التعقيد فى مقال للرأى دون تبسيط. فليعذرنى المتخصصون ويتعاونوا فى القراءة، ويقبلوا إقرارى بأن كل مصطلح أستخدمه يحتوى على درجات وتباينات وخلافات بعضها مهم. لكن كل التباينات الأكاديمية لا تغير كثيرا من الملامح العامة لهذا الصراع: فـ«داعش» تحز رؤوس «الكفار» و«المرتدين»، وتفرض «الجزية» على «أهل الذمة»، وهى أمور مشابهة لما فعلته حركة «طالبان»، وما تدعو إليه «بوكو حرام» وآخرون من أنصار هذه التيارات. ورغم إقرارى بالتباينات والخلافات الشديدة بين هذه التيارات وجماعة الإخوان أو التيارات السلفية، فإن فترة حكم مرسى قد دفعت إلى السطح بقضايا لا تختلف فى جوهرها عن تلك التى تطرحها «الدولة الإسلامية» و«الخليفة» أبوبكر البغدادى: المساواة بين المسلمين وغيرهم، وعلاقة الدين بالمواطنة، والمساواة بين الرجل والمرأة، وحدود الحرية الشخصية، ودور الدولة فى فرض الأخلاق، وعلاقتنا بالعالم الخارجى من الجهاد للأستاذية لغير ذلك.

ومن ثم السؤال: هل هناك وسيلة سلمية لإدارة هذا الصراع أو حسمه أم أن سفك الدماء وحز الرؤوس هو مصيرنا المحتوم؟

أكاد أجزم أن القائمين على أمر الدولة يعتقدون استحالة حسم هذا الصراع أو إدارته سلميا، ومن ثم سيلجأون تلقائيا إلى نفس الأسلوب الذى اتبعته الدولة منذ أيام محمد على، وهو السيطرة على المجال العام، وتقديم تنازلات لكل طرف، وفى نفس الوقت لجم طموحه وقمعه عند الضرورة، ودفن الصراع تحت ستار كثيف من الدخان اللفظى والإيماءات الرمزية فى كل الاتجاهات. وليس هذا بالضرورة أسوأ السيناريوهات، فمن المؤكد أنه أفضل من التهجير والصلب وقطع الرقاب. لكن للأسف لا أظن أن هذا الأسلوب أصبح قابلا للنجاح أو الاستمرار، (بالإضافة طبعا إلى كونه لم يمنع التهجير والصلب وقطع الرقاب). فهناك أشياء تغيرت فى العالم وفى بلادنا ومجتمعاتنا، وفى طبيعة القوة وكيفية استخدامها وقابليتها للانتشار، بحيث أصبح من المتعذر استمرار سيطرة الدولة بالطريقة القديمة على المجال العام. على العموم لن يمنع أحد القائمين على الدولة من المحاولة. لكن دعنا نفكر فى حل آخر فى حالة ما كنت محقا وكان هذا الأسلوب قد ولت أيامه.

هل يمكن للأطراف الثقافية المختلفة (وتعبيراتها السياسية) التوصل إلى عقد اجتماعى بالحوار، يحفظ لكل طرف الحد الأدنى من المبادئ التى لا يستطيع الحياة دونها، وينظم الصراع بينها حول بقية الأمور؟ هل يمكن للتيارات الدينية والليبرالية- والدولة- الاتفاق على حد أدنى لمضمون المساواة بين المواطنين، أو على حد أدنى لمفهوم الحرية والمسؤولية الفردية؟ وهل يمكن لهذه الأطراف الاتفاق على وسائل غير دموية تسمح لها بمواصلة الصراع الثقافى بينها: بالكتابة والرأى والمناظرة والاحتكام للدستور؟

أعلم أن السؤال شديد التفاؤل، إن لم يكن السذاجة، لكن دعونا نفكر ولو قليلا قبل استبعاده نهائيا. فطريق المواجهة العنيفة ليس لطيفا بالمرة: انظروا إلى ليبيا وما كان يُعرف بسوريا والعراق. وبديل القمع ومحاولة تفادى الصراع لا تحل المشكلة، بل تؤجلها وبنفقة كبيرة: انظروا إلى الجزائر. ثم تعالوا نتخيل أننا نجحنا، فى مصر، فى جمع التيارات الأصولية والتحديثية حول عقد اجتماعى ينظم التعايش والصراع بينها سلميا. هل تتصور أثر ذلك على الحياة فى مصر، على كافة مستوياتها، ابتداء من المشاحنات الطائفية حتى الاحتقان السياسى والاجتماعى؟ وهل تتصور إلى أى مدى يمكن أن يشكل ذلك نموذجا للبلدان العربية والإسلامية الأخرى التى يمزقها هذا الصراع الثقافى السياسى من وسط آسيا إلى المحيط الأطلسى إلى الساحل الأفريقى؟ هل يستحق الأمر على الأقل أن نحاول؟ ألا يمكن أن ننجح، وساعتها نعيد فعلا رسم خريطة حياتنا وحياة المنطقة بالكامل؟

نشر في المصري اليوم بتاريخ ٢٦ يولية ٢٠١٤